سمعت وشاهدت في أحد المواقع الإلكترونية حوارا، ممتعا ومفيدا، في ذات الآن، مع مغني “الراب “المغربي الملقب “بيغ” من طرف المعجبين، أو “الخاسر” كما يُحب هو أن يُنادى. قال الشاب البدين الخفيف الظل كلاما يجعلك تنفجر من الضحك، وفي نفس الوقت، يدفعك لتأمل مكامن الصحة، والعمق، والمعقولية، التي ينطوي عليها. قال مثلا جوابا على سؤال طرحه عليه الصحافي الأنترنيتي “الزينبي” * حول الفرق بينه وبين المغنين الشعبيين.. قال “الفرق بيني وبينهم أنهم يُغنون سكرانين، بينما أغني أنا في حالة صحو، والنتيجة أن أغانيهم تقول أن كل شيء جيد، أما أغاني أنا فتنتقد الوضع”.
لنكتشف في هذا الجواب الصريح الصادم قسطا وافرا من الحقيقة. فأغاني هذا الشاب البيضاوي – نسبة إلى مدينة الدار البيضاء – تنتمي لحساسية فنية جديدة كل الجدة. فعمرها لا يتعدى بضع سنوات تُحسب على رؤوس الأصابع، لكنها استطاعت أن تُؤلب اهتمام شريحة واسعة من الشباب المغربي الباحث عمن يُعبر عن همومه، وما أكثرها، وتطلعاته، وما أقلها. شباب في العشرينيات من أعمارهم فتحوا أعينهم على سعة من الحياة فاصطدموا بضيقها القسري، وجدوا في هذه الموجة الفنية الطرية العود بعضا من متنفس موسيقي وثقافي. والحقيقية أن “بيغ” أو “الخاسر” يمنحهم فرصة انعتاق شعورية من خلال تناوله لبعض همومهم الحياتية والوجودية. يتناول الواقع بكلمات الشارع العارية، عكس المغنين الشعبيين الذين تُوظفهم السلطة “المخزنية” شر توظيف منذ عشرات السنين. لذا يُغرقون وعيهم كما ينبغي قبل أن يصعدوا فوق الخشبة ليُغنوا بأن “العام زين” أي جيد.
“بيغ” الفصيح في غيرما مُراءاة أو ادعاء يزيد الطين بلة، بإجابته الصريحة أيضا على هذا السؤال: “كيف تنظر إلى مُنتقديك من نفس الحساسية الفنية التي تنتمي إليها؟” يجيب هذا الولد البدين، الخفيف الظل: “ليست لدي أية مُشكلة مع النقد حينما يكون هادفا إلى التطوي، أما حينما يكون صادرا عن ضغينة وحسد من طرف الزملاء والأقران فلا أعيره اهتماما”. وليضيف هذه العبارة النورانية حقا: “إننا إذا ظللنا نُكيل لبعضنا البعض الغل والحسد فلن نتحرك بفننا قيد أنملة، إذ بقدر ما نضع لبعضنا البعض العصي وسط العجلات لن ننجح في الدفع بالعربة التي نستقلها جميعا”.
توقفت طويلا عند هذه الإجابة لأنها أحالتني على ذهنية مُجتمع بأسره، حيث يُكيل السياسيون لبعضهم البعض الشتائم السرية والعلنية، ويضعون في سبل بعضهم البعض الأشواك وقشور الموز. أما الصحافيون فيتناوبون على تسقط هناتهم، ويتبادلون الشتائم الرخيصة عبر صحفهم. أما المثقفون فيتجاهلون إنتاجات زملائهم، ويرد هؤلاء “الحسنة” بمثلها. يُفضل أحدهم مثلا قراءة كتب “هابرماس” إذا كان مشتغلا بالفلسفة وعلم الاجتماع، أو وروايات “ميلان كونديرا” إذا كان على بعض شغف بالأدب.. على “تضييع الوقت” في قراءة مؤلفات “الزميل” الفلاني أو العلاني في نفس الجامعة أو اتحاد الكتاب…
غير أن هذا التنافر يظهر أثره المدمر أكثر في الحقل السياسي، حيث يتبادل الحلفاء في أكثر من “ائتلاف” أو “تكتل” السباب المُبطن، أكثر الأحيان، والعلني، حينما يبلغ السيل الزبى عند أحد الأطراف المتصارعة..
لنقدم بعض الوقائع الملموسة لما نقوله.. ففي استجواب أخير له مع جريدة الأيام الأسبوعية، لم يدخر الأمين العام لحزب الاستقلال عباس الفاسي وسعا في كيل الانتقادات، بالمرموز والواضح لـ”حليفه” الأساسي في تنظيم “الكتلة الديمقراطية” حزب الاتحاد الاشتراكي، حيث قال من بين ما قاله أن هذا الأخير استهدفه من خلال إدانة وزارة العدل(التي يوجد على رأسها الوزير الاتحادي بوزوبع) لمجموعة من النواب البرلمانيين الاستقلاليين، المتهمين بتلقي رشاوى في انتخابات الغرفة البرلمانية الثانية، حيث استشاط الاستقلاليون غضبا حينما تمت تبرئة النائب الإتحادي المُتهم، بينما أُدين الباقون ومنهم المحسوبون على حزب الاستقلال. وليطالب بالتالى، هذا الأخير على لسان أمينه العام، بعودة وزارة العدل إلى “حظيرة” القصر. أي أن تعود كما كانت من بين ما يُطلق عليه “وزارات السيادة” مثل الداخلية والخارجة… وهكذا يتبادل رُفقاء “الكتلة الديمقراطية” التي تأسست في بداية سنوات التسعينيات من القرن الماضي، بهدف النضال من أجل إرساء الديمقراطية، والإصلاح الدستوري… يتبادلون الاتهامات اليوم و يُطالبون بعودة واحدة من أهم الوزارات إلى نفوذ القصر(هذا مع العلم أن هذه الوزارة ليست بخارجة عن هذا النفوذ فعلا، وإنما مُنحت شكلا لوزير اتحادي لا سلطة حقيقية له على هذا القطاع الحساس). يتناسى الأمين عباس الفاسي هذه الحقيقة، ولا يجرؤ على تسمية الأمور بمسمياتها، ويكتفي بالتلويح بـ”إمكانية التحالف مع حزب العدالة والتنمية “الأصولي “المعتدل”. أما القادة الاتحاديون فلا يدخرون وُسعا في رد الصاع صاعين لـ”حلفائهم” اللدودين في الكتلة “الديمقراطية” إذ لا يُفوتون الفرصة، كلما سنحت، لتقطير الشمع عليهم. كما حدث خلال المعركة الإعلامية بين الحزبين حول فضائح اتهام ومحاكمة النواب البرلمانيين.
هذا عن أحد أوجه الصراع العلني بين “الحليفين” التقليديين في المشهد السياسي المغربي. أما عن وجه آخر طارئ فيتمثل في الشنآن الذي نشب، مستهل الصيف الماضي، بين ما يُسمى بأحزاب الأغلبية الحكومية، مُتمثلة أساسا في الحزبين السابق ذكرهما، من جهة، والأحزاب الصغرى، سيما المحسوبة على ضفة المعارضة، نذكر منها الحزب الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة ، وذلك حول تحديد نسبة الانخراط لدى الأحزاب المُخولة للمشاركة في العملية الانتخابية، وتحديدها: هل في سبعة بالمائة، كما كانت تريد أحزاب الأغلبية، وعلى رأسها الاستقلال والاتحاد (في عملية استئساد مفضوحة على الأحزاب الصغرى، وهو ما كان يعني أوتوماتيكيا إقصاءها من التباري في الانتخابات) أم في نسبة ثلاثة بالمائة، كما كانت تتمنى هذه الأخيرة. أما وزارة الداخلية – أي الدولة – فدافعت بذكاء عن عتبة خمسة بالمائة، وتركت “حلفاء” اليسار يتقاتلون كأي أطفال أشقياء، بينما راقبت هي المشاهد المسلية من بعيد، لترى ما يُمكن أن تجنيه من معركة الإخوة اليساريين الألداء. وكان مما جنته أن النائب الثاني لحزب اليسار الاشتراكي الموحد، والسجالي المعروف “محمد الساسي” قبل دعوة كاتب الدولة في الداخلية، والساعد الأيمن للملك ضمن الكوكبة الأوليغارشية الحاكمة “فؤاد عالي الهمة” إلى مائدة عشاء دون قيد أو شرط – من شروطه السابقة، في عقلنة المشهد السياسي المغربي، وما إليها من مطالب إصلاحية شبه جذرية- وبذلك كان صراع الرفاق اليساريين، على المغانم الانتخابية المخزنية، قدم للدولة ذلك المناضل الجيد على طبق من فضة.
أما في المجال الصحافي، فيتبادل “الزملاء” الشتائم فيما بينهم، كما يليق بسجناء حق عام في زنزانة ضيقة. فإذا لم يكن الخلاف تقليديا بين المُناصرين للملكية والمخزن (من الذين هم مُستعدون دائما ليكونوا ملكيين أكثر من الملك وهم كُثر كالجراد) وبين المُستقلين بأفكارهم وأقلامهم، وهم قلة قليلة آيلة للانقراض.. إذا لم يكن الخلاف كذلك، فإنه يصب في نوع من التباغض والتحاسد، مما يُحيل على عدم نضج فاضح في الانتساب لهذه المهنة الصعبة الشرسة. لنذكر من هذا النوع الأخير ما اقترفه كاتب عمود مُغرق في الشعبوية، حينما دعا بلا أدنى حياء غداة نشر مجلة” نيشان” لملفها حول “النكتة السياسية والدينية والجنسية”…دعا إلى تحرك الدولة لمعاقبة “زملائه” على ما “اقترفوه” وكان من المُستغرب حقا، أن الدولة تحركت فعلا في اليوم المُوالي لنشر الكاتب الشعبوي لاستعدائه ذاك، ومُنعت المجلة المذكورة، وحُوكم مديرها وإحدى الصحافيات من هيئة تحريرها. وأتوقع أن أصحاب مجلة “نيشان” سوف يسعون إلى رد الصاع صاعين لكاتب العمود الشعبوي حينما يستأنفون الصدور مستهل شهر مارس الجاري، وأتمنى أن يُُخيبوا توقعي، وقفا لكل هذه التفاهة “المهنية” المُقززة.
هكذا يمنح مُمتهنو الكلمة الإعلامية، في مُجملهم، الدليل على سذاجة مُخيفة حقا، وهو ما يجعل الدولة تصفي الكثير من حساباتها مع بعض الصحافيين المزعجين، من خلال تسليط “زملاء” لهم عليهم، وكفاها ذلك شر القتال و”وساخته”.
وآخر نموذج من هذا الصراع الوسخ بين الصحافيين، كان خلال الضجة التي أحدثتها جريدة” الصحيفة” اليومية، أواخر شهر يناير الماضي، حينما نشرت مضمون رسالة لمستثمر أمريكي اتهم فيها الملك محمد السادس بتلقي رشوة من الأمراء السعوديين، نظير صرفه النظر عن بترول “تالسينت” (انتشر في صيف سنة 2000 أمر توفر هذه البلدة المغربية المهمشة، على البترول إلى حد اندفع معه الملك إلى إعلان الخبر “السعيد” في خطاب رسمي للشعب المغربي يوم 20 غشت من نفس السنة، وهو ما أسفر عن وهم تحول إلى مصدر خيبة وتنكيت بين أفراد عامة الشعب). وبالرغم من أن رسالة الاتهام للملك تعود إلى ثلاث سنوات خلت، غير أنه في خضم التنافس المحموم، وبالتالي غير العقلاني، على السبق الصحافي، عمدت الجريدة المذكورة إلى نشرها، دون حيطة وحذر، من مثل تركيب مهني للمعلومة القديمة إياها، مما تسبب في ضجة سياسية وإعلامية. غير أنه كان محل استغراب أن تعمد فيدرالية هيئة الناشرين(وهي منتظم يجمع، كما يدل عليه اسمها، أغلب أرباب الصحف المغربية) إلى إصدار بلاغ إدانة ضد “زميلتهم” الصحيفة، وذلك في خرق سافر لأبسط أعراف الزمالة المهنية، واعتباراتها الأخلاقية. وكان مما أجج من هذا السعار “الزملائي” إن صح التعبير، هو أن نقابة الصحافة نفسها، طار” لبها” خوفا أو فرحا، لست أدري، حينما توصلت برسالة “تظلم” من القصر الملكي، أفادتها عدم “رغبة الملك في متابعة الصحيفة المذكورة، والاكتفاء باحتجابها (الطوعي) عن الصدور، وعمدت أي النقابة المذكورة – التي يُسيطر عليها الحزبان التقليديان:الاتحاد الاشتراكي والاستقلال – إلى إصدار بلاغ يُدين الجريدة، وليس فقط ما قامت به.
هكذا تتشعب المعارك، بين المكونات السياسية والمنابر والتنظيمات الإعلامية، وفق حسابات يتدخل فيها السياسي بالشخصي بالثقافي، لتنسج وضعا هشا تستفيد منه فقط القوى، وعلى رأسها النظام الملكي، الراغبة في تجميد الحراك السياسي والمجتمعي.
وبالعودة إلى أدبيات فكرية أساسية، حاولت دراسة التكوين الاجتماعي والأنتربولوجي للمجتمع المغربي منذ المرحلة الاستعمارية المبكرة، نجد واحدة، ما تزال تحتفظ بكامل قوتها وموضوعيتها، ونعني بها النظرية الانقسامية، وهي اجتهاد من الدارسين الفرنسيين والانجليز، الذين أخضعوا التكوين القبلي والعشائري للمجتمع المغربي، لمبضع التحليل والتصنيف العلميين. الأمر يتعلق بنظرية مُؤداها أن التكوين الاجتماعي التقليدي للمغاربة، يظل مُستجيبا في “حراكه” لضرورات الروابط التقليدية، وبالتالي لا تنفع فيه محاولات الائتلاف ذات الطابع الحديث، نظير الحزب أو المؤسسة وما شابه، وأكدوا أن الدولة المخزنية لم تستطع بسط نفوذها على هذا التشكيل القبلي العشائري المعقد، سوى بلعبها على المتناقضات الانقسامية للمغاربة، وباستثمارها للبعد الديني.
هكذا يتأكد أن النظرية إياها ما زالت صالحة لفهم الواقع المغربي الحالي، حيث تفشل كل محاولات التأسيس العقلاني لمناحي الحياة، وتتسيد بالتالي عناصر التشتت والبغضاء، لأسباب تنأى عن المبررات العقلية، وتقترب أكثر من الاعتبارات التقليدية والشخصية.
وكم كان حكيما مغني “الراب” المغربي الشاب “بيغ” أو الخاسر” في حواره الأنترنيتي الذي استفز قلمنا لكتابة هذه المقالة، حينما قال أيضا في موضوع التنافس المَرَضي بين زملاء نفس اللون الغنائي الذي يُمارسه: “إننا سنستفيد جميعا لو عملنا بتضافر، حيث من شأن تعاوننا أن يجلب لفننا المزيد من الجمهور، و..تعالي إلينا كلنا، يا أرباح مادية ومعنوية” ثم ليُضيف هذه الجملة الختامية الحصيفة، في حق أولئك الذين يُفضلون الخوض في مستنقع الخلافات الجانبية، التباغضية والتحاسدية: “إن هؤلاء تُعشش العناكب في أدمغتهم.. لا يعرفون كيف يستفيدون هم أنفسهم فكيف سَيُفيدون الآخرين ب (فنهم(“.
mustapha-rohane@hotmail.fr
*يُمكن الاطلاع على الحوار كاملا مع “بيغ” أو “الخاسر” في الموقع التالي:www.dailymotion.com