تكشف مجريات الأحداث وتسارع الوقائع في أرض فلسطين عن حقائق لم يكن بالحسبان تخيلها فأحرى توقعها. ذلك أن حالة الاقتتال التي عمت قطاع غزة وروعت أمن المواطنين وسكينتهم لم تترك خطا أحمر إلا وعبثت به وبكل الدلالات التي يوحي إليها وكذا بالقيم السامية التي أشاعها النضال ضد الاحتلال الصهيوني وكرستها روح المقاومة التي فجرتها انتفاضة 87 المجيدة. حينها بلغ التضامن والتكافل مراقي أصبح معها الشعب الفلسطيني أسرة واحدة يتنافس أعضاؤها في حب الوطن والتضحية في سبيل استقلاله. وصرنا نقرأ ونسمع عن أن شرف الأسر بات يقاس بأعداد الشهداء الذين قدمتهم من أبنائها فداء للوطن. وكذلك الحال في مجالات اجتماعية أخرى، يأتي الزواج في مقدمتها، حيث توارت أعراف التكافؤ الأسري وارتفاع المهور والأعراس الباذخة. كان هاجس الشعب الفلسطيني، وهو يبدع أشكال وطرق النضال، تقوية اللحمة الداخلية وتعزيز الوحدة الوطنية ؛ لأنها هي سنده الرئيسي ومصدر قوته وصموده الأسطوري. كما ظلت وحدة الصف الفلسطيني تنعش آمال الجماهير العربية في الوحدة والديمقراطية والحرية. وفي كل الحالات كانت القضية الفلسطينية تمنح ما يكفي من الفرص للجماهير الشعبية للتظاهر خارج الألوان الحزبية، وللقادة العرب ما يضمن التآم قممهم وتجاوزهم لكل الخلافات البينية. هذا الإرث النضالي الهام والمشترك نراه اليوم وقد صار مجالا لعبث العابثين الذين حولوا بنادقهم إلى نحور بعضهم البعض، ليس دفاعا عن الوطن وشرف وكرامة المواطنين، بل رغبة في الكرسي و”تضحية” من أجل الحفاظ عليه. وحين يكون الذاتي هو المحرك والباعث تكون حتما الشراسة والفظاعة، فتختفي كل القيم النبيلة والأخلاق النضالية الرفيعة.
وقد عكس الصحافيون حقيقة الدرك الأسفل من الوضاعة التي انتهى إليها الاقتتال الداخلي بين الفلسطينيين حين اضطر المراسلون لارتداء الخوذات والسترات الواقية من الرصاص وهم يغطون جولات الاقتتال وشراسته في شوارع غزة وأزقتها، وكأن الأمر يتعلق فعلا بساحة حرب. إنه لأمر خطير ومؤسف أن ينتهي النضال الفلسطيني إلى اقتتال داخلي لا ينجو منه الأطفال ولا النساء. والأخطر من ذلك ما كشف عنه مدير عام الإسعاف في وزارة الصحة الدكتور معاوية حسنين من ” أن عددا من المصابين نزفوا حتى الموت في المكان دون أن تتمكن سيارات الإسعاف من الوصول إليهم بسبب الاشتباكات العنيفة الدائرة في مناطق مختلفة في مدينة غزة وشمال القطاع “. هذا المشهد المروع لم لا يحدث إلا في ظل الاجتياح الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية. بل إن تقارير صحفية تحدثت عن إطلاق الرصاص على سيارات الإسعاف ذاتها. إن شراسة الاقتتال الداخلي بين الفلسطينيين فاقت بشاعة الهمجية الإسرائيلية. إذ في ظرف 24 ساعة سقط من القتلى مالا يقل عن 26 قتيل. وحسب إحصائية لمركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة أن إجمالي القتلى منذ بداية يناير 2007 أكثر من مائة. إذن فالوضع الفلسطيني الداخلي، بسبب ما انتهى إليه من فلتان أمني خطير واقتتال فصائلي، أصبح ينذر بفقدان تماسك المجتمع الفلسطيني. وهذا أخطر من فقدان تماسك السلطة. على اعتبار أن السلطة لها مؤسسات ونظم وتشريعات يمكن تفعيلها لاسترجاع التماسك، بينما تماسك المجتمع لا يمكن استرجاعه أو ضمانه مهما بلغت صرامة القوانين ودقة التشريعات.
والمؤشرات المتوفرة تفيد أن المجتمع الفلسطيني بات مهددا، أكثر من أي وقت مضى، بفقدان تماسكه. من ذلك ارتفاع معدلات الإجرام والسطو المسلح ؛ إذ عوض أن يوفر السلاح أمن الفلسطينيين ويحمي ممتلكاتهم، غدا مصدر تهديد مباشر فاق ما هي عليه التهديدات الإسرائيلية، كما أكدت هذا الحاجة أم أيوب (64 عاما) بقولها: “لم نشعر خلال سنوات الاحتلال الطوال بالخوف على أولادنا كما نشعر بالخوف عليهم اليوم خلال الصراعات الدائرة بين الأخوة من فتح وحماس، فما يجري لم نكن نتوقعه، وعلى الجميع وقف نزيف الدم الفلسطيني”. إن هذا الاقتتال، إن لم يتدارك الفلسطينيون أمرهم، سيزيد المجتمع تفككا ويضعه على شفير الحرب الأهلية. ذلك أن القتل سيولد بالضرورة الثأر. إذ بعد أن كانت أرواح الشهداء توحد الفلسطينيين في مراسيم التشييع ومجالس العزاء حيث تتعالى زغاريد النساء رفعا للهمم وتحديا للهمجية الإسرائيلية، صارت أرواح القتلى تؤجج مشاعر الحقد وميولات الثأر. بسبب ذلك فشلت كل المحاولات من أجل وقف الاقتتال رغم تعدد النداءات والاتفاقات الموقعة بين الطرفين المتصارعين ــ فتح وحماس ــ اللتان ما أن تنتهيا قيادتهما من تلاوة قرار التهدئة حتى يتجدد الاقتتال بشكل أكثر حدة من سابقه.
كل هذا يضعنا أمام أسئلة محرجة منها: كيف يطلب الفلسطينيون من إسرائيل الالتزام بتعهداتها وهم لا يفعلون ذلك فيما بينهم ؟ هل الكرسي هو مبلغ المقاومة أم الوطن ؟ هل السلاح دفاع عن الشعب والوطن أم تهديد لهما وتفريط فيهما؟ عموما، ومهما كانت فرص النجاح كبيرة أمام لقاء مكة المكرمة برعاية خادم الحرمين الشريفين، فإنها لن تصمد طويلا بسبب الأسس العقائدية التي قامت عليها حركة حماس والتي تجعلها بديلا عن منظمة التحرير وضمنها حركة فتح، سواء على مستوى طبيعة الدولة المنشودة كما تنص المادة السابعة والعشرون من ميثاقها الأساسي: ( تبنت المنظمة فكرة الدولة العلمانية وهكذا نحسبها. والفكرة العلمانية مناقضة للفكرة الدينية مناقضة تامة، وعلى الأفكار تُبنى المواقف والتصرفات، وتتخذ القرارات. ومن هنا.. لا يمكننا أن نستبدل إسلامية فلسطين الحالية والمستقبلية لنتبنى الفكرة العلمانية). أو على مستوى الموقف من إسرائيل ومن مبادرات السلام. وهذا ما نقرأه في أحد النصوص المنشورة في موقع المركز الفلسطيني للإعلام تحت بند النشأة والتطور، حيث جاء فيه ” برنامج الثورة الفلسطينية الذي تجمع وتبلور في منظمة التحرير الفلسطينية تعرض في الثمانينات إلى سلسلة انتكاسات داخلية وخارجية عملت على إضعافه وخلخلة رؤيته. وكانت سنوات السبعينات قد شهدت مؤشرات كثيرة حول إمكانية قبول م.ت.ف بحلول وسط على حساب الحقوق الثابتة لشعبنا وأمتنا وخلافاً لما نص عليه الميثاق الوطني الفلسطيني، وتحولت تلك المؤشرات إلى طروحات فلسطينية واضحة تزايدت بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد.. الأمر الذي عزز الاتجاهات الداعية للتوصل إلى تسوية مع العدو داخل المنظمة وتضمنت طروحات التسوية التنازل عن قواعد أساسية في الصراع مع المشروع الصهيوني”. ودون مراجعة هذه الأسس العقائدية، ستظل احتمالات التطاحن أقوى من فرص التصالح.
برنامج الثورة الفلسطينية الذي تجمع وتبلور في منظمة التحرير الفلسطينية تعرض في الثمانينات إلى سلسلة انتكاسات داخلية وخارجية عملت على إضعافه وخلخلة رؤيته. وكانت سنوات السبعينات قد شهدت مؤشرات كثيرة حول إمكانية قبول م.ت.ف بحلول وسط على حساب الحقوق الثابتة لشعبنا وأمتنا وخلافاً لما نص عليه الميثاق الوطني الفلسطيني، وتحولت تلك المؤشرات إلى طروحات فلسطينية واضحة تزايدت بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد.. الأمر الذي عزز الاتجاهات الداعية للتوصل إلى تسوية مع العدو داخل المنظمة وتضمنت طروحات التسوية التنازل عن قواعد أساسية في الصراع مع المشروع الصهيوني”. ودون مراجعة هذه الأسس العقائدية، ستظل احتمالات التطاحن أقوى من فرص التصالح.
selakhal@yahoo.fr
* المغرب