تمر ذكرى الوحدة السورية المصرية والفكرة القومية العربية في أسوأ أحوالها. إنها ليست على أجندة المواطنين العرب، الذين انفعلوا بها لعقود، وليست بين أولويات القوى والأحزاب العربية التي تبحث عن سبيل للخروج من عنق الزجاجة الذي دخلت فيه منذ عقود.
لماذا أصبحت الفكرة التي ألهبت مشاعر المواطنين طوال عقود أثرا بعد عين؟
نجحت الفكرة القومية في خمسينات وستينات القرن الماضي ليس في استقطاب الجماهير بل وفي حشدها في معارك محددة: وحدة مصر وسوريا، حماية ثورة العراق، نصرة ثورة الجزائر،دعم القوى الوطنية في اليمن ….الخ. ولكنها سرعان ما فقدت زخمها في ضوء الهزائم المبكرة التي منيت بها : جريمة الانفصال وهزيمة حزيران 1967. قبل أن تجهض قيامتها وتجهز عليها أنظمة سياسية تبنتها وحولتها إلى عقيدة للحكم ودين للدولة فجعلتها عملا رسميا وحزبيا وحملتها مسؤولية الفشل والهزيمة.
لقد أدمجت الفكرة القومية في منظومة سلطوية تتبنى سياسة قمعية ضد المجتمع وسياسة تمييزية ضد بعض مكوناته غير العربية، وهذا قاد إلى تشتت مركز التنبه في الشخصية العربية وشتت رد الفعل الشعبي في مواجهة التطورات السياسية والاجتماعية وخلق حالات استقطاب عرقي وديني ومذهبي وجهوي،وافرز ظاهرة الاستقالة السياسية. وقد زاد في سلبيات الموقف انتقال نقطة التركيز في هذه الأنظمة من الأهداف القومية إلى استمرار النظام وحماية “الثورة”، وإلحاق الثقافة بالسياسة، ما منع قيام ثقافة قومية مستقلة عن هذه الأنظمة قادرة على الحفاظ على الهوية وعلى وحدة مركز التنبه في الشخصية العربية.
اعتمدت الأنظمة القومية على منهج اتحادي يقوم على دمج السلطة والحزب الحاكم والنقابة والتنظيمات الشعبية في كيان واحد، بتعميم مفهوم للسياسة قائم على اعتبار السياسة مجموعة من المشكلات الإدارية، وان الخلاف يمكن أن يدور حول هذه المشكلات، وحول رفع مستوى الأداء، ولكن دون التطرق إلى الخيارات والأولويات، ما يعني إلغاء التنافس في المجتمع السياسي والركون إلى عملية دمج وإلحاق سياسي شاملة، أما الأطر الحزبية التي أقامتها فكانت اقرب إلى الطابع التنظيمي منها إلى الطابع السياسي الاجتماعي، فالبرامج مفروضة من الأعلى، والتشديد على الديمقراطية الاجتماعية يتم لاستبعاد الديمقراطية السياسية، حيث كسب الشعب الديمقراطية الاجتماعية دون أن تتاح له، بالقدر نفسه، فرصة ممارستها كسلطة سياسية أي كأسلوب عمل يومي – إنها اطر تحشيد وتنميط وتحييد أكثر منها اطر تفعيل وإشراك وتطوير – وتمسكت الأنظمة رغم انجازاتها الاقتصادية والاجتماعية، باستبعاد العمل السياسي لصالح نظام مركزي بيروقراطي، يولي الاهتمام الأكبر في تحقيق الأهداف للعمل التنفيذي وليس للعمل السياسي – حتى التجنيد والترقية داخل الأطر الحزبية الرسمية، والمراكز القيادية منها بخاصة، تتم بالتعيين أو بالتوجيه وليس بالانتخاب الحر.
لقد تضخمت السلطة وتوسعت صلاحياتها وسيطرتها على حساب المجتمع المدني وهذا جعل المحصلة النهائية، ليس مجرد إخفاق في تطوير الجانب السياسي للدولة في تميزه عن الجانب الإداري والاقتصادي، وإنما شل المجتمع بإخراج من المعادلة السياسية بعزله عن المشاركة في إدارة شؤونه وفي القرار الوطني.
كما قاد تبني الأنظمة القومية للخيار الاشتراكي إلى استكمال عملية استتباع المواطنين عبر اعتماد سياسة الإنتاج والتوزيع في ذات الوقت والسعي وراء هدفين سياسيين متعارضين : حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وتحسين ظروف المجتمع عبر إعادة توزيع الثروة،واستخدام عملية التوزيع في السيطرة على المجتمع . فالدولة الريعية، التي تقوم بدور توزيعي، دون أن تطلب من المواطنين مساهمة حقيقية في التنمية، تسلبهم حقهم السياسي في المشاركة في اتخاذ القرار، والدولة شبه التوزيعية، كالأنظمة الاشتراكية العربية، التي تقدم الإعانات الاجتماعية والخدمات وفرص العمل، تسعى إلى جعل المشاركة السياسية محدودة في اطر سياسية بيروقراطية تؤمن من خلالها قاعدة عريضة من التأييد الشعبي من القوى الوطنية كافة . لان اعتبار الدولة مدخلا سياسيا لتغيير المجتمع قاد، كما قال الدكتور نزيه نصيف الأيوبي، إلى” دمج الوظيفة السياسية في الأجهزة الإدارية، وهذا بدوره قاد إلى دمج الوظيفة السياسية في الوظيفة الأمنية، حتى كادت أجهزة الأمن أن تصبح عراب العمل السياسي والتنظيمي، وتقوم بالدور الذي كان من المفترض أن تقوم به الأحزاب السياسية، كل هذا مع نزوع امني- إعلامي قائم على اعتبار كل معارضة سياسية مؤامرة تهدد امن الجماعة والنظام، وتهدد الأهداف العليا للوطن في استقلاله ونهضته ورخائه”.
لقد أدت عملية استتباع المواطنين وسلبهم حريتهم ودورهم في إدارة شؤونهم السياسية والاقتصادية إلى تهميشهم ودفعهم إلى السلبية والاستقالة فانفصلوا عن الأنظمة وعن الفكرة التي سعت إلى إلزامهم بالولاء لها ما رتب تآكل الولاء للفكرة القومية وذبولها في عقولهم وضمائرهم.
*كاتب سوري