تماماً وكأنني أعيش في لبنان، أحتاج الى إجازة منه. المسافة التي أقيمها معه لم تَعُد كافية. ربما لم أقمْ مسافة بالأصل. ربما توهّمتُ انني أقمتُها. الآن الوهم غلبني وصرتُ بحاجة الى إجازة من الكَمَد والنَكَد اللبنانييَن. إجازة الى ابعد حدود ممكنة. يسعفني الحظ هذه المرة ايضاً، ويختار لي مرسى علَم البعيدة عن القاهرة بحوالى ألف كلم. أي تسع ساعات بالسيارة.
من القاهرة شرقاً نخترق الصحراء لنصل «سحبة واحدة» الى شاطئ «العين السخنة». ثم نتجه جنوباً بمحاذاة بقية قناة السويس ومن بعدها البحر الأحمر؛ وذلك بموازاة شاطئ سيناء الشرقي الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة عندما تكون السماء صافية. كل هذا على شمالنا. اما على يميننا، فجبال وهضاب وتلال وصحراء… حتى مرسى علم. وهي آخر نقطة حضرية قبل حلايب على حدود السودان. طريق طويلة بعد العين السخنة. تتخللها الزعفرانة والغردقة (الطليعة في السياحة)، وسفاجة (المرتبطة بغرق العبّارة «السلام»، الآتية من السعودية…)، ثم القصير. لنصل الى المقصد النهائي، «مرسى علم». وجلّ هذه البلدات-المدن نشأ على مشروع استخراج الغاز او صناعة الإسمنت؛ واستمر وتوسع وازدهر على وقع المشاريع السياحية الجديدة. وغالبية سكانها من الصعيد القريب، نسبياً. اتوا الى هنا للعمل واستقروا. رنّة الأسماء الجميلة لهذه البلدات-المدن تعكس ربما الجمال الاستثنائي لألوانها. الوان الشمس الساطعة، الوان الصحراء والجبال والهضاب والتلال والسماء… الوان الليل القمرية المفتوحة على المساحات. البحر «الأحمر»: اسمٌ على مسمّى. التراب المحاذي له لونه احمر، وكذلك بعض الجبال، خاصة في الزعفرانة. وعندما تغيب الشمس خلف الجبال والتراب الحُمر، يتلوّن البحر باللون الأحمر…
لكن السحر منقطع، غير متّصل. تغلبه الغرابة بين البلدة والاخرى. فالشاطئ مملوء بالخلجان الصغيرة. وتنتصب حوله قامات شاسعة من الأمكنة المسماة «قرى سياحية» (resorts): كالحصون المحروسة، بأبراج مراقبة، واسوار عالية تخفي القرى وسكانها عن النظر، وتعطي ظهرها للمحيط القريب. قرى سياحية اشبه بمعسكرات كشفية مرفّهة. فنون عمارتها الاكزوتيكي مستوحى معظمه من العصور الاسلامية الذهبية. او هكذا افترض المصمم انها كانت… والاكزوتيكي ليس بمعنى العلاقة القديمة مع الطبيعة، حيث يفترض ايضاً ان تشرّع الابواب والنوافذ والممرات للنسمة الآتية من الشمال، حيث البحر المتوسط، ومن الشرق، حيث البحر الاحمر. لا. بالعكس. الحصون السياحية هذه، المبنية على سحر الشرق وغموضه، لا تحتاج الى هواء بحاره ونسماته العليلة. المكيّف الكهربائي يغنيها عنها. فقط يُراد منها شمساً وشاطئاً واسترخاء وبعض الرياضة البحرية، وقليل من الفضول للتعرف على الأسماك والأحجار النادرة. طوال هذه الطريق الطويلة، ترتفع القرى السياحية وتمتد، وتسوّر أراضٍ جديدة مشتراة، وينهض العمار فيها مثل فطر الشتاء الأول.
نبلغ مقصدنا اخيراً. فندق في قلب «مدينة» قيد الإنشاء. والمدينة اسمها «بورتو غالب». اين مرسى علم إذاً؟ على بُعد 70 كلم عن بورتو غالب. «مدينة» بورتو غالب تقع في «بلدة» مرسى علم، البعيدة عنها 70 كلم! وهي استكملت بناء هيكلها الأساسي، او بنيتها التحتية. وملامحها شبه واضحة. أعيد ترتيب مياه شاطئها بحيث تحوّلت الى ميناء دولي ورسمي، بضفتين: الواجهة الشمالية، او «الميناء»، هي «المدينة» الساحلية العربية القديمة، او هكذا يريدنا المعمار ان نفترض. مدينة قديمة تغلق نوافذها على النسمة العليلة. ولكن لها مآذن ودكاكين… وخلف الواجهة سوق «مركزية»، منسوخة عن خان الخليلي في ايام عزّها، ومشربيات ومنازل مطلّة على نفسها؛ وكلها شقق معروضة للبيع… اما الواجهة الجنوبية، فللقرى السياحية، للـ «أجانب» الذين يمضون اسبوعاً اواثنين من الاسترخاء؛ يمكنهم خلالهما «زيارة» المدينة «العربية» المواجهة، لو أرادوا التبضّع في أسواقها «العتيقة»، او «السياحة» فيها او مجرد التنزّه. مدينة كالمستوطنة. مستوطنة بعلاقات بشرية مختلفة، بعلاقة مع الأرض مختلفة.
من هم هؤلاء الناس الذين يستوطنون المكان، لمدة أسبوع أو اثنين، او لمدة عقد عمل من الزمن؟ الأولون هم السياح. أوروبيون في غالبيتهم. اوروبا الغربية والشرقية. يأتون جماعات، عبر المطارات الكثيرة. «مدينة» بورت غالب (أو قل مرسى علم) لها مطارها الخاص، الذي يبعد كيلومترين عنها. الباصات توصلهم جماعات منظمة. ينفردون بالشمس والمياه والاسماك النادرة، ثم يعودون الى ديارهم. هم زبائن صناعة السياحة الجماهيرية في بلادهم. (الاسعار فائقة الرخص). السياحة تعني الاجازة عندهم. منهكون من ضباب بلادهم وانضباط حياتهم. متعبون يأتون. لا فضول عندهم كما كان لدى طليعتهم، المستشرقون. الفضول القليل هو لبعض الطبيعة. والباقي حصون مسوّرة.
البنّاؤون وعمال الورش، فئة اخرى. هم طبعاً مصريون، ومن الصعيد القريب نسبياً. ما علاقتهم بالمكان؟ لا يعرفون عنه غير ورشة عملهم المضني، والنوم. البناؤون هم ربما اكثر الفئات انسلاخاً عن المكان الذي يبنونه. وإضافة الى ان إقامتهم موقتة، فهي محمولة بالتعب المثابِر.
العاملون في الفنادق، وشبه المقيمين فيها هم ايضاً منقسمون مناطقياً. القاهريون، (أو قليل من «الاجانب») هم المديرون العامون او نوابهم. في المشارب، الساقي لا يمكن ان يكون صعيدياً. انه دائماً من احدى مدن او بلدات الساحل الشمالي المطل على البحر الابيض المتوسط. النادلون والساهرون على نظافة المكان من الصعيد او من البلدات الاقرب. وعلى رأس هؤلاء كلهم، كبار المستثمرين. كبار جداً: بورتو غالب وحدها، وقد اشتراها مستثمر خليجي، تمتد على 33 كيلومتراً من الشاطئ، وبعمق 22 كيلومتراً تخترق الرمال والهضاب والتلال. المطار انشأه المستثمر وكذلك المرفأ.
تكاد تتساءل طوال الوقت. «تكاد»، اقول، لأن الجواب جاهز. ومع ذلك: اين كان هذا المكان مخبأً؟ ما الذي جعله ممكناً؟ ما الذي حوّله من لا مكان الى مكان؟ ما الذي جعل هذه الأراضي القاحلة والجبال والهضاب الوعرة الجافة، مكاناً للاستثمار العالمي؟ وجعل كل هذه الفئات من البشر تلتقي، موقتاً، في هذا المكان الصعب؟ تبني مع بعضها ومع المكان علاقة غير معهودة؟ انها العوْلمة يا صاحبي. سرعة الاتصالات والمواصلات والإعلام. الوتيرة الجهنمية التي تجعل العالم واحداً، تحوّل المكان المعزول الى ارض موانئ ومطارات واستثمارات. لا مكان لهكذا مكان لولا العوْلمة. والعولمة تنتج علاقة اخرى بالارض، علاقة اخرى بالإنسان.
بالأمس كانت مدينة بور فؤاد، الواقعة على الجهة الشرقية لمدينة بور سعيد، قبْلة المصطافين البريطانيين والمقرّبين منهم من المصريين. معمارها الكولونيالي، فيلات وشرفات واسعة من الخشب وسط حدائقها الرحبة المزروعة بأشجار النخيل الشاهقة. والآن، تبحث في بور فؤاد عن الكولونيالي القديم بين ركام الإهمال والغبار… وعبثية هوائها المتدفّق من القارتين، آسيا وافريقيا. بور فؤاد مدينة كأنها منكوبة او مهجورة، وبور غالب مدينة قيد الإنشاء. حيث الحياة كانت مستحيلة صار مكاناً واعداً، قيد الإنشاء.
*الحياة