هناك حقيقة أود أن أنطلق منها في هذه المقالة، ذلك أن “العصبية” للمنهج ليست كالعصبية في الموقف السياسي أو الاجتماعي. ويرجع ذلك إلى أن المناهج العلمية تتكامل ولا تتنافر، وقد أوقع الخلط بين الإخلاص المنهجي والإخلاص الاجتماعي بعض المفكرين العرب في خطيئة الخلط بين مناهج البحث والنضال لاسياسي أو الاجتماعي وآل بهم إلى الدوغما أو الانغلاق في الفكر والبيروقراطية في الحكم.
ينظر إلى الدكتور طه حسين كرائد في مشروع بحث التراث وفق المناهج الحديثة بعد إرهاصات النهضويين والسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وقد استند إلى منهج الشك الديكارتي. ولم يكن هذا المنهج سائداً في الغرب حين تبناه طه حسين بل مطروحاً مع مناهج أخرى كالهيغلية (نسبة للفيلسوف هيغل) والكانتية (نسبة للفيلسوف كانتْ) والماركسية (نسبة للمفكر ماركس)، وإنما اختاره لعلاقته بموضوع دراسته وهو الأدب وتحديداً الشعر الجاهلي.
كذلك لم يظهر طه حسين في مسالكه الديكارتية كمنحاز لمنهج دون غيره لأن موضوع الشعر الجاهلي كان منذ عصر التدوين قد خضع لتشكيك حقيقي من مؤرخي الأدب القدماء. فاستفاد من منطق ديكارت لإعادة بحث الموضوع وفق المطالب العلمية الراهنة. وتغيب ديكارتية طه حسين في مصادر معرفته المتنوعة وإحاطته شبه الشاملة بتاريخ وتراث العرب والإسلام مع فهمه الدقيق للغة النصوص القديمة، وما تمتع به إلى ذلك من خيال خصب واستيعاب لأسرار التعبير اللغوي والدلالات المعقّدة للمفردات والتعابير.
ومشروع طه حسين تنويري، وقد فتح به أبواب النقد الحديث في التاريخ والأدب وينبغي اعتباره البداية “الشارعة” للفكر العربي الحديث. وهو لم يفشل – كما يظن البعض – بل أدى دوره بالتمام ولا يزال يُلهم جيله اللاحق كيفية النظر إلى التراث بفهم علماني متحرّر من قيد السلفية.
ولا يعني بقاء القديم إلى جانبه أنه انحسر أو فقد زخمه. فالأفكار تتزامن، ويبقى لكل من القديم والجديد روّاده وأنصاره. وحينما يقال عن منهج أو مذهب أنه انتصر فلا يصح أن يفهم منع أنه انفرد بعقل المجتمع بل هو يبقى فاعلاً في مجال ويكون له أتباع يرجعون إليه أو يطورونه في أي وقت.
مع طه حسين ظهرت معالجات جديدة أخرى لتاريخ الأدب العربي والفلسفة الإسلامية والتاريخ العام. فيتناول أحمد أمين تاريخ الحضارة الإسلامية بمنهج حديث متأثر بالاستشراق إنما كاشف ومنتج، مع تقصيره – في تقديري- عن مدى طه حسين وتنويريته العالية.
وألَّف زكي مبارك في التصوف الإسلامي كتاباًً رائداً في بابه، ولو أنه بدوره بقي أدنى من الذروة التي تناوشها طه حسين في الأدب الجاهلي.
وكتب مصطفى عبد الرازق في تاريخ الفلسفة الإسلامية تمهيداً انطلق منه تلميذه على سامي النشار للكتابة عن نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام. وبرغم ميوله الأشعرية، قدَّم النشار صورة تأريخية (بالهمزة) لعلم الكلام كميدان للفكر الفلسفي ميزه عن الفلسفة التي اعتبرها جارية في خط التراث اليوناني.
وكتابات النشار مرجع هام لفهم هذا الفكر، وقد كتبت بأمانة علمية مع تعمق ساعد عليه توغله في التراث الفكري وجودة فهمه لمشكلات الفلسفة بتفرعاتها الشتى.
ثم كان انتشار الماركسية وظهور الأحزاب الشيوعية، فأخذ بها كتّاب ماركسيون وشيوعيون من المتخصصين في تاريخ الإسلام السياسي والثقافي.
ولعل المؤرخ والمفكر حسين مروة من الروّاد الأوائل في هذا المضمار. ويشتمل سِفْره عن النزعات المادية في الفكر العربي الإسلامي على مادة ضخمة حُلِّلت بجهد علمي كبير في ضوء المادية التاريخية.
ومنهج حسين مروة سوفييتي. لكن الثروة الطائلة التي امتلكها في التراث أخرجته من خطوط الدوغما إلى أفق أوسع بدا فيه قادراً على الإمساك بالمشكلات الدقيقة للفلسفة الإسلامية. وقد تواضع فقبل عليها شهادة الدكتوراه من السوفييت، فكانت من الحالات النادرة التي يستلم فيها أستاذ شهادة عليا من تلامذته.
ولم يبدأ حسين مروة من الصفر كما لم يدعُ إلى إعادة كتابة التاريخ. بل شَرع في النظر على خطوط سابقة استعرضها في مدخل موسّع هو بحد ذاته كتاب، وقيّمها بتواضع وإنصاف في ضوء منهجه المادي ممارساً في مجمل مراجعاته أخلاقيته الشخصية، وتبعاً لها، العلمية الراقية.
ayemh@yahoo.com
* كاتب كويتي