ليست لدينا فكرة عن النقاش الداخلي أو “النقد الذاتي” الذي قد يكون جاريا في صفوف “حزب الله” وبين حكمائه حول الدروس المستفادة من الإخفاقات السياسية الأخيرة، لكننا في كل الأحوال على يقين بأن جزءا مهما من النقاش يجب أن يجري في إيران باعتبارها المرجع المطاع للحزب، ولأن ما حصل حتى الآن وأي أخطاء جديدة قد تقع فيها قيادة الحزب – أو تستدرج إليها – لن يقتصر ضررها على الحزب وحده وعلى البلد بل ربما وبالدرجة الأولى على الجمهورية الإسلامية ومصالحها المشروعة في المنطقة.
ونبدأ بالقول إن النتيجة الأهم لتكتيكات الحزب الأخيرة أنها بدلا من أن تخدم الحضور السياسي الشيعي والحضور الإيراني في لبنان، فإنها أضعفتهما إلى حد كبير. فالمخيم الذي راهن الحزب في البدء على أنه سيكون الوسيلة المزلزلة لإظهار الثقل البشري والسياسي للطائفة، وتاليا لبلوغ الهدف، أصبح عبئا ثقيلا وبات على العكس مظهرا للعجز السياسي لأنه أخرج الحضور السياسي الشيعي الوازن من قلب دائرة القرار السياسي في البرلمان والحكومة ولجان الحوار إلى مخيم ثقيل الوطأة ومنسي عمليا فيما الدولة مستمرة في العمل (بما في ذلك مصادرة شحنات الأسلحة!) بدعم عربي ودولي لا مهادنة فيه، والبرلمان على أهبة معاودة الانعقاد في دورته العادية في منتصف آذار المقبل، والمحكمة الدولية تبدو أمرا مبتوتا ولن يفلح شيء في تبديل مسارها.
في غضون ذلك، وفيما يتولى وزراء بالتكليف مهمات الوزراء المستقيلين، تقلص بعض هؤلاء، وقادة الحزب عموما، من أركان أساسيين ومهابين في حكم البلد إلى قادة اعتراض واحتجاجات شارعية ترافقها سجالات ومهاترات عقيمة لم تفلح في تغطية الإخفاق السياسي لاستراتيجية الفوضى وسياسات الترويع وليّ الأذرع.
وأثبتت تجربة الأسابيع المؤلمة المنصرمة أن محاولة الحزب استخدام قوته الميدانية والتحشيدية لتبديل موازين ما قبل حرب تموز فشلت لأنها واجهت مجتمعا مدنيا لبنانيا يزداد تبلورا وصلابة في مُثُله الوطنية والاستقلالية الجامعة وفي قيمه الديموقراطية. وكان شعار “أحب الحياة” ابلغ تلخيص رمزي للهوة التي قامت بين “استراتيجية الساحة” والانقضاض على المؤسسات وبين الحقيقة الجديدة للبلد وهي أن المجتمع المدني والسياسي اللبناني على أتم الاستعداد للقتال بكل الوسائل السلمية بل الاستماتة لحماية المشروع الاستقلالي والحؤول دون رد البلد إلى الوراء.
ومن الواضح أن “المقاومة الاستقلالية” العارمة بل الشرسة للبنانيين (حتى بثمن الدم الزكي والاستشهاد) لمشاريع “الردة” المتوالية فاجأت بل صدمت “حزب الله” الذي لم يقرأ كما ينبغي المتغيرات الكبرى التي حصلت في البلد، خصوصا منذ جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والتي تلاها الانسحاب المفاجئ لآلة القمع العسكرية والاستخبارية في لبنان ثم انتقال السلطة أو قسم أساسي منها إلى تحالف 14 آذار. كما لم يقرأ الحزب ايضا الطبيعة “النهائية” للتغيير الذي ارتسم بعد حرب تموز ليس في الجنوب فحسب بل في الموازين السياسية الداخلية – الدولية ومدى تصميم القوى الحية للمجتمع اللبناني على فرض منطق الدولة الواحدة والمؤسسات الديموقراطية.
لم يتنبه الحزب ربما إلى أن الوضع اللبناني تغير من أسسه، وأن لحظة التغيير والتحول التاريخي تقلب رأسا على عقب، في أشهر قليلة بل في ايام أحيانا، ما قد يكون تم بناؤه بالباطل وحمايته بالقوة في سنين طويلة (لنتذكر الانهيار المذهل في سرعته للانظمة الحديدية في أوروبا الشرقية). أما الساحة المستباحة التي كانها لبنان فلم تفرغ إطلاقا بخروج السوريين، إذ جرى ملؤها على الفور من القوى السياسية التي كانت تتجمع في رحم الأزمة الصامتة والتي أدى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى تفجيرها وبلورة تحالفاتها ومشروعها السياسي وعزيمتها الكفاحية. وإذا كان الحزب في حاجة لدليل إضافي للتيقن من عمق التغيير اللبناني، فقد جاءه الدليل في الفشل الذريع لقوى “العهد السابق” في مساندته وتأمين “غطاء وطني” له عندما كان في أمس الحاجة لمثل هذا الدعم، وأظهر ذلك أن القوة الفعلية للكثير من تلك القوى “وهمية” فعلا ولم تعد موجودة بعد ارتفاع الغطاء السوري.
قبل ذلك كان “حزب الله” قد تعرض لانتكاسة أساسية تمثلت في خروجه القسري من جنوب لبنان في ظل الضغوط التي انهالت عليه خلال حرب التدمير الإسرائيلي للجنوب والضاحية وأنحاء كثيرة أخرى من لبنان. اضطر الحزب ووزراؤه للموافقة على النقاط السبع ثم على القرار الدولي 1701، ولم يدرك الحزب ربما إلا لاحقا أنه وقـَّع بذلك على الإعلان الرسمي لنهاية دوره كقوة مسلحة. وبرغم أن الحزب ربح جولات مهمة في المقاومة الميدانية أثناء العدوان الإسرائيلي (ويجب الإقرار له بذلك دون تردد) فإنه في النهاية خسر الحرب، وتحديدا حرب الدفاع عن مبرر وجوده، بسبب سحب ورقة الجنوب من يده وتسليمها الى الجيش اللبناني مدعوما بالقوة العسكرية الحازمة للتحالف الدولي.
لكن إخراج القوة المسلحة لـ”حزب الله” من الجنوب كانت له نتيجة أسوأ في المدى الطويل هي إضعاف قيمته العسكرية والاستراتيجية خصوصا بالنسبة للجمهورية الإسلامية في إيران. أضف إلى ذلك أن الارتداد الصاخب للحزب على الداخل في مسعى مستعجل لاستعادة المبادرة عبر فرط الواقع السيادي انتهى بنتائج عكسية ويكاد يحوّل الحزب عبئا على الراعي الإيراني بدليل طلائع الفتنة الخطرة التي جرّتها محاولة إسقاط حكومة “المقاومة السياسية” للرئيس فؤاد السنيورة، وأي محلل سياسي مبتدئ لا بد أن يتساءل عن مصدر الإلهام الإلهي الذي جعل الحزب يقامر برصيده الشعبي الداخلي والعربي والإسلامي في هذا النوع من المواجهات الفئوية المقيتة والصبيانية، وهذا في وقت كان واضحا لكل ذي لب أنها ستصطدم بالحائط عاجلا أم آجلا.
لقد تضرر “حزب الله” كما تضررت صورة الطائفة الشيعية من مشهد الخيم والممارسات الفوضوية الأخيرة، ونحن نتكلم فقط عن النتائج المباشرة على الساحة اللبنانية ولا نشير إلى الصورة في العالم العربي الأوسع أو التعبئة السلبية التي ساهم بها المشهد اللبناني في الشارع السوري، وهو بدوره ساحة حبلى بالكثير من المخاطر والاعتمالات السياسية.
لكن المتضرر الأول من تلك المواجهات التي تصدرت شاشات الفضائيات العربية والدولية لأيام كان ولا شك الجمهورية الإسلامية الإيرانية الراعي المعلن للحزب في لبنان والمسؤول تاليا ماديا ومعنويا عن حصيلة خياراته ومعاركه الداخلية. كل ذلك في وقت تواجه إيران المحاصرة والمأزومة اقتصاديا خطر الدخول في مواجهة قاسية مع الغرب، وربما في حرب لا يعرف أحد أين ستصل في آثارها البعيدة على الشعب الإيراني بل ومصير النظام نفسه. وطهران، التي قرر مجلس الأمن بإجماع أعضائه فرض عقوبات متدرجة عليها، لا تملك اليوم الكثير من الأصدقاء في العالم مما يعني أنها في أمس الحاجة للتفاهم مع العرب والحصول على دعمهم ودعم العالم الإسلامي، وليس تحريك مشاعر العداء لها باعتبارها المحرك الرئيسي للفتنة الشيعية – السنية وإشاعة الفوضى هنا وهناك. وأحد أهم محكّات السلوك الذي ستحاسب طهران عليه عربيا وإسلاميا هو موقفها من الأزمة اللبنانية وتاليا قدرتها على اتباع سياسة جديدة تعترف بالتنوع اللبناني وبالحكومة الشرعية وبالنتائج السياسية لحرب تموز وأهمها أن لبنان يرفض بإصرار أن يبقى ساحة لحروب الآخرين وأن “حزب الله” لم يعد بالضرورة الأداة المثلى لتأمين النفوذ السياسي الذي تنشده في لبنان.
لقد كان لـ”حزب الله” دوره المهم كاحتياط استراتيجي لإيران طالما كان موجودا بقوته العسكرية الضخمة في الجنوب. أما الآن فإن الحزب ليس فقط فقد دوره العسكري وقيمته كورقة استراتيجية بل أنه أتبع ذلك بارتكاب أخطاء كبيرة في الداخل وتبذير عشوائي لرصيد ثمين من الاحترام والدعم الذي جمعه بصبر وبثمن التضحيات الكبيرة في قتال العدو الإسرائيلي.
ولهذا، وفي ضوء تجربة الأشهر التي تلت حرب تموز ثم فشل “الحرب” التالية على حكومة الرئيس السنيورة، فإن على الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن تعيد النظر في ديبلوماسيتها اللبنانية بصورة جذرية بما يجعل من لبنان ليس “ساحة لمقاتلة أميركا”، كما أوحت القيادة الإيرانية يوما، بل ساحة لبناء الثقة مع العالم العربي والسني بصورة خاصة، لعل إعادة النظر هذه تكون في مصلحة إيران أولا وكذلك في مصلحة دور فعلي وإيجابي لها في المنطقة. إن العديد من اللبنانيين والعرب معجبون بالإرث الحضاري الفارسي ومساهمته الكبرى في الإرث العظيم للعالم الإسلامي وليست لديهم تاليا – ولا يجب أن تكون – ذرة عداء للأمة الإيرانية العظيمة. لكن على الجمهورية الإسلامية ان تتفهم أن عليها للفوز بمكانة ما في لبنان أو في الوسط العربي السني في غالبيته أن تتقرب من جميع اللبنانيين لا أن تتماهى بصورة تامة ووحيدة مع فصيل شيعي فقط على أساس ولائه المطلق لها. لقد كان الاتحاد السوفياتي يهمل الأحزاب الشيوعية المحلية، خصوصا تلك الموالية له، المتحمسة لقلب السلطة والمتلهية بشعارات “الثورة” وأدبياتها ويتجه بدلا من ذلك لإقامة علاقات الصداقة مع القوى الفعلية الأكثر تمثيلا من الزعامات الوطنية، بل أن موسكو، ومن أجل كسب المزيد من النفوذ، شجعت الأحزاب الماركسية في الماضي على الاعتدال واجتناب التقوقع والانخراط في “جبهات عريضة” ولو كانت بزعامة قوى وأحزاب “إصلاحية” أو “بورجوازية”.
بتعبير آخر، إن من الأفضل لمصالح الجمهورية الإسلامية أن تشجع على تحول “حزب الله” إلى حزب سياسي لبناني وأن تعطيه قدرا كبيرا من الحرية في إغناء قياداته وكوادره بالعناصر المدنية والكفايات السياسية و”التكنوقراطية”، وأن تحيل في الوقت نفسه على الاستيداع سلاح الحزب وقياداته الأمنية التي يجب ألا يكون لها اي دور في الحياة السياسية الداخلية وإدارة العلاقات بالأطراف اللبنانية المتنوعة واللعب بالوضع السياسي الشديد التعقيد والحساسية (ولقد رأينا بعض مآثر العبقرية الأمنية في الهمروجة الأخيرة!).
في الوقت نفسه، فإن من الأنسب للجمهورية الإسلامية تخفيف التزاماتها المالية في لبنان أو تحويل قسم كبير من الموازنة التي كانت مخصصة للبنية العسكرية والأمنية والاجتماعية لـ “حزب لله” إلى مؤسسة تنمية رسمية تقدم منحها ومساعداتها لكل المناطق والفئات وعبر الدولة اللبنانية.
بشكل أعم إن من مصلحة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفي إطار استراتيجية عامة للتفاهم وبناء الجسور مع أقطار المنطقة وشعوبها، أن تنقل تأييدها الى الفصائل والقوى الشيعية المعتدلة الأكثر التصاقا بالواقع اللبناني والأكثر أهلية وخبرة تاليا في مجال التعامل مع هذا الواقع المتنوع بكل فئاته ومع المجتمع العربي السني الطابع في غالبيته الساحقة. لأنها بذلك فقط يمكنها أن تشجع على دور أساسي وبنّاء للشيعة في لبنان وتكسب في الوقت نفسه نفوذا لها يكون إيجابيا ومقبولا من فئات المجتمع اللبناني. ومن أخطر المنزلقات أن تسعى الجمهورية الإسلامية لأن تكون بمثابة “أرض الميعاد” للشيعة في العالم العربي فتشجع بذلك بقصد أو بغير قصد على انسلاخهم النفسي عن بلدانهم وتصادمهم المتزايد مع البيئات التاريخية والمجتمعية التي يعيشون فيها بسلام وطمأنينة منذ قرون طويلة، لأن هذا الأمر يسبب للشيعة قبل غيرهم انفصاما مؤلما في الهوية والشخصية الوطنية ويفسد عليهم التمتع بأوطانهم الأم والازدهار والتقدم في إطارها. كما أنه قد يزيد الشكوك في ولاء الشيعة ويفاقم مخاطر التمييز ضدهم في طول العالم الإسلامي وعرضه. على العكس، فإن أي سياسية حكيمة من القادة الإيرانيين يجب أن يكون مؤداها تشجيع الشيعة على الاندماج ورفع مخاطر العزلة عن هذه الطائفة العزيزة والأساسية في تكوين المجتمع اللبناني (والعربي) وتاليا تسهيل تقدمها الاقتصادي والاجتماعي واضطلاعها بالدور السياسي الذي يعود لها كحق أساسي وطبيعي.
* كاتب لبناني