تقف اليوم شركات نفطية من اليابان و كوريا الجنوبية و ماليزيا و سنغافورة و الكويت و استراليا و فرنسا والصين في طوابير على أبواب كمبوديا من اجل الحصول على حقوق التنقيب عن النفط و الغاز في هذه الدولة التي أنهكتها ثلاثة عقود من الحروب الأهلية و النزاعات الإقليمية والأنظمة القمعية، بل التي لولا المساعدات الدولية لما استطاعت أن تقف على قدميها.
ويأتي هذا التطور في أعقاب دراسات قام بها البنك الدولي و جامعة هارفارد الأمريكية و الأمم المتحدة و مؤسسات أخرى معروفة، و أفادت جميعها بأن هذه البلاد تنام على ثروات هائلة من الطاقة غير المكتشفة يمكن – وفق بعض التقديرات – أن تزيد على بليوني برميل من النفط و نحو عشرة تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. و لعل ما عزز من مصداقية هذه الدراسات هو أن شركة تشيفرون النفطية الأمريكية التي أنفقت حتى الآن ما مجموعه 130 مليون دولار على أعمال النقيب في كمبوديا، قد نجحت بالفعل في العثور على النفط في العامين الماضين في خمسة من اصل ستة آبار حفرتها في المياه الإقليمية الكمبودية في خليج تايلاند، حيث يعتقد وجود احتياطيات تتراوح ما بين 500 – 700 مليون برميل من النفط و 3- 5 تريليون قدم مربع من الغاز بحسب التقديرات الأولية.
وبطبيعة الحال فان هذا يمثل خبرا سعيدا نادرا لبلد يعيش نحو 40 بالمئة من سكانه البالغ تعدادهم 14 مليون نسمة تحت خط الفقر (أي الذين يحصلون على اقل من نصف دولار في اليوم)، و يموت فيه 30 ألف طفل سنويا بفعل الأوبئة و نقص العلاج، و لا يحصل 50 بالمئة من أطفاله على التعليم ما فوق الابتدائي بسبب الفاقة و العجز، ولا تصل الطاقة المستوردة إلا إلى 15 بالمئة من سكانه طبقا لتقارير المؤسسات الإنمائية الأممية. فالتقديرات التي اشرنا إليها حول حجم ثروات كمبوديا من النفط و الغاز، بامكانها وفق أسعار الطاقة الراهنة في الأسواق العالمية أن تضخ عوائد تصل إلى نحو 6 بلايين دولار سنويا على مدى العقدين القادمين. و هذا بطبيعة الحال رقم يفوق عدة مرات إجمالي ما تحصل عليه كمبوديا سنويا من عوائد صادراتها و من أموال المساعدات و الهبات الخارجية، بل يفوق أيضا حجم الناتج المحلي الكلي للبلاد و الذي لا يتجاوز في أفضل الأحوال 5 بلايين دولار.
غير أن هناك من يحذر من احتمال أن تتحول هذه الثروات من نعمة إلى لعنة على الكمبوديين، تأسيسا على ما حدث في دول عالمثالثية فقيرة أخرى بعيد اكتشاف النفط فيها. ففي بعض الحالات لم يستفد عامة الشعب من عوائد النفط بقدر ما استفادت حفنة من الساسة والمتنفذين. و في حالات أخرى كانت عوائد النفط سببا في قيام الحروب الأهلية أو تحول البلاد إلى ساحة للصراعات والتدخلات الإقليمية، أو دافعا للمغامرين للقيام بانقلابات عسكرية متتالية و بما أدى إلى فقدان الاستقرار السياسي. و إذا ما شئنا البحث عن أمثلة نسند به هذه المخاوف، فان الحالة النيجيرية تبرز كأفضل مثال. فنيجيريا التي برزت كدولة نفطية منذ أوائل سبعينات القرن الماضي، و صدرت منذ ذلك الحين ما قيمته 400 بليون دولار من النفط و الغاز، لا تزال تعيش حالة من البؤس و الفقر و التخلف أسوأ بكثير مما كانت تعيشه قبل اكتشاف النفط ، بدليل أن 70 بالمئة من شعبها لا تزيد دخولهم اليومية عن دولار واحد. و السبب هو فساد الأنظمة التي تعاقبت على حكمها و توجيه مداخيلها النفطية نحو المصالح الشخصية أو القبلية أو الجهوية بدلا من مشاريع التنمية الوطنية المؤدية إلى خير المواطن و ازدهار الوطن، الأمر الذي ساهم في ظهور الميليشيات المسلحة واستهدافها للمنشآت النفطية بالاعتداء و التخريب.
و هكذا إذا ما أخذنا في الاعتبار عوامل متجذرة على الساحة الكمبودية مثل تفشي الفساد والمحسوبية و النزعة الديكتاتورية و غياب الشفافية و ضعف اطر الدولة المؤسساتية، رغم كل التحولات التي شهدتها البلاد منذ بدء عملية السلام في أوائل التسعينات، فان فرضية تحسن الأحوال الاقتصادية لعموم الكمبوديين بفعل تصدير النفط الذي يتوقع أن يبدأ في عام 2008 أو 2009 مشكوك فيه بحسب بعض المراقبين. حيث يراهن هؤلاء على أن النظام الكمبودي الحالي بقيادة رئيس البلاد القوي ” هون سين” سوف يكون حينذاك متحررا من الاشتراطات التي تفرضها الهيئات و الدول المانحة مقابل حصوله على المساعدات و المنح و الهبات الإنمائية، علما بأن هذه الاشتراطات لعبت حتى الآن دورا محوريا في دفع كمبوديا نحو شيء من احترام حقوق الإنسان وتأسيس المؤسسات الديمقراطية و الالتزام بالمعايير الدولية في الإنفاق العام. و بعبارة أخرى يمكن لحكومة ” هون سين” أن تقول للهيئات و الدول المانحة اذهبوا إلى الجحيم فلم اعد مكترثة بمساعدتكم و شروطكم، فقد صار عندي ما يغنيني عنها! و لعل ما يدفع إلى هذا القول أن الرجل قد بدأ بالفعل في تجاوز القانون بتأسيسه مؤخرا لسلطة خاصة بالطاقة و وضعها تحت إشرافه المباشر واحاطة أعمالها بالسرية التامة.
و من ناحية أخرى، فانه ما لم يتم التوصل إلى اتفاقية ودية ما بين كمبوديا و جارتها تايلاند حول ترسيم الحدود البحرية في مياه خليج تايلاند، حيث توجد ثروات النفط المغمورة، أو الاستغلال المشترك لهذه الثروات، فان إشكالات مريرة قد تقع بين الدولتين الشريكتين في منظومة آسيان، محولة بذلك نعمة النفط إلى نقمة على حالة السلام الراهنة في المنطقة. و الجدير بالذكر أن الدولتين تدعيان السيادة على مناطق حدودية برية وأخرى بحرية متداخلة في خليج تايلاند بمساحة 2600 كيلومتر مربع، و بما جعل حتى استغلال الثروة السمكية في الأخيرة مشكلة. و كحل لهذا الإشكال اقترحت فنوم بنه في عام 2000 أن يتعاون البلدان معا في استغلال وإنتاج نفط المنطقة المغمورة، مشيرة إلى أن البديل هو استمرار الخلاف لمائتي سنة أخرى. إلا أن بانكوك ردت بالرفض، و هو ما أرجعه المراقبون إلى عوامل تاريخية قديمة مؤججة للعواطف القومية. وفي العام التالي تم الاتفاق بالأحرف الأولى على البدء في مفاوضات لترسيم تلك الحدود البحرية لكن دون أية نتائج ملموسة على الأرض. و مما يمكن قوله على هذا الصعيد أيضا أن الجارتين الآسيويتين دخلتا في مفاوضات لحل المشكلة في عام 1995 ، إلا أن الاضطرابات السياسية التي حدثت في كمبوديا في عام 1997 معطوفة على تغير الحكومة في بانكوك في العام نفسه، أفضيا إلى تجميد تلك المفاوضات. و في عام 1998 تعمق الخلاف أكثر كنتيجة لاتفاق تايلاند و فيتنام على البحث المشترك عن النفط و الغاز في مياه خليج تايلاند، بما في ذلك المياه التي تدعي كمبوديا السيادة عليها.
و مختصر القول أن مدى استفادة الكمبوديين من ثروة بلادهم الهائلة من الطاقة يعتمد بالدرجة الأولى على نمط الحكم. فان كان نزيها و شفافا و خاضعا للمحاسبة الديمقراطية، فقد تنعم البلاد بخطط تنموية طموحة و ذات مردود ايجابي على الأحوال المعيشية بصفة عامة. أما في ظل نظام حكم تسلطي و أجهزة حكومية غير معينة بقواعد الشفافية و المحاسبة، فان عوائد الثروة النفطية سوف تزيد الهوة ما بين الفقراء و الأغنياء، بل و يمكن أن تلعب دورا في زيادة رعونة النظام واستشراء الفساد ، خاصة إذا ما عرفنا أن الصناعة النفطية لا تخلق في العادة فرصا وظيفية كثيرة وتتسبب في التضخم.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية