أي جدل فكري يتمركز حول مفهوم “الهوية”، أو يعتمد عليه كمحور أساسي لتحليل سياسي أو اجتماعي، لا نعتبره مقاربة علمية موضوعية لأي قضية أو إشكالية إنسانية، لأن مثل تلك المقاربة في رأينا تدخل بنا إلى أنفاق ضيقة وخانقة، لا تصل بنا إلى أي مكان أو أي حلول حقيقية باتجاه تطور الحياة وازدهارها، بل في الأغلب تقودنا إلى التوقف بخشوع أمام مومياوات تاريخية في أحسن الأحوال، أو أصنام كرتونية مصطنعة في أسوأها.
وإذا حاولنا في عجالة أن نستعرض مبررات موقفنا هذا، نجد أن حديث الهوية لابد وأن يتضمن أحكاماً تعميمية –لا بد وأن تكون منتقصة الدقة- على قطاع عريض من البشر الذين يشملهم تعريف الأمة، كما يمتد التعميم زمانياً، ليشمل إدعاء الهوية فترة زمنية تكون دائماً طويلة، كما يخضع ادعاء الهوية لعملية خيار تعسفي غير علمي، ففي حالة أمة ممتدة التاريخ كالأمة المصرية، كلما أوغلت في عمق التاريخ كلما تغيرت ملامح الهوية التي ترصدها، فإذا قررت لسبب في ذهنك أن تتوقف عن الغوص في التاريخ عند القرن السابع الميلادي، فإن هذا يساعدك على التسرع بالقفز فوق حقائق واقعية كثيرة، لتخلص في بحثك إلى القول بأن هوية مصر إسلامية مثلاً، لكنك إن توغلت أكثر في التاريخ، فإن هذا يدخل ملامح أخرى على هويتك، عبر المرور على المراحل القبطية والرومانية ثم البطلمية واليونانية، حتى تصل إلى المرحلة الفرعونية.
من المآخذ على مفهوم الهوية أيضاً افتراضه الثبات في شخصية الشعوب، وهو ما تدحضه حقائق التاريخ الحافل بالهجرات البشرية، وبالتداخل الحضاري بالأخذ والعطاء بين جميع شعوب العالم، فيما عدا النادر من القبائل البدائية المعزولة في بعض مجاهل كوكبنا، وليس التاريخ وحده ما يكذب المفهوم الجامد والمتحوصل للهوية، لكن أيضاً طبيعة الإنسان ككائن منفتح قابل للأخذ والعطاء، وتنمو شخصيته وتتغير مع تراكم الخبرات، وهي الصفة التي ميزت الإنسان عن باقي مملكة الحيوان، وكانت وراء مسيرته الحضارية الطويلة، من العصر الحجري إلى عصر تكنولوجيا المعلومات.
أيضاً غالباً ما يقودنا حديث الهوية إلى البحث عن الانغلاق والتحريض عليه، واعتبار كل ما يأتي من الخارج شراً مستطيراً، لأنه تهديد لهويتنا الثمينة، فيكثر الحديث عن الغزو الثقافي واستلاب هوية الأمة وما شابهها، فنحرم أنفسنا من منجزات الإنسانية الفكرية لننكفئ على الذات، في ذات الوقت الذي نتسول أو نستورد فيه من العالم منتجات الحضارة التكنولوجية، لنعجز عن استخدامها الاستخدام الأمثل، وقد قلنا مراراً أن استيراد التكنولوجيا بدون القيم التي أنجبتها، بمثابة زواج من جثة.
حديث الهوية أيضاً غالباً ما يكون بحثاً تلفيقياً، يفترض النتيجة مقدماً، ثم يبدأ في البحث لها عن مبررات ومرجحات، فيعلي من أهمية عناصر في تكوين الأمة، ويخفض من أهمية عوامل، ويتجاهل من الأساس عوامل أخرى، وبصفة عامة تعلي مقاربة الهوية من شأن الماضي والدوجما والأيديولوجيا، على حساب الواقع الفعلي المعاش وحقائقه ومتطلباته المستقبلية.
من خلال الجدل الفكري الدائر في مصر الآن، حول المادة الثانية من الدستور، والتي تنص على أن دين الدولة الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، نستمع إلى صيحات نارية، تقول أن المادة بصيغتها الحالية تجسد هوية الأمة، وأن حذفها أو تغييرها هو محاولة لمحو أو تغيير هوية الأمة، وإزاء هذه المغالطات الخطيرة، التي تتلاعب بمشاعر وعقول شعبنا المتدين بالسليقة، يتحتم علينا أن نفضح زيف تلك الادعاءات، في البداية على مستوى الصفوة، ثم التوجه إلى عامة الناس، ليعرفوا أن لا أحد يستهدف دينهم وهويتهم بالمحو أو التبديل، وإن كان أحد يفعل ذلك فهم أصحاب تلك الدعوات والصيحات النارية النازية، والتي يبطنون بها غير ما يعلنون، فهم طلاب سلطة وثروة، وليسوا أهل أصالة ودين.
اختزال تعريف هوية الأمة المصرية في قول أن “دين الدولة الإسلام” فيه اجتزاء مخل بمحتوى الهوية، فالإسلام دين والمسيحية دين، والدين ليس كل هوية الفرد أو الأمة، هو جزء من الهوية، وقد يكون كما في حالة الشعب المصري بالتحديد جزءاً هاماً أو الجزء الأهم، لكن هناك ملامح ومكونات أخرى تحدد هوية أي شعب، هناك العادات والتقاليد، وهناك الرؤى الثقافية والسياسية والاقتصادية، وهناك تأثير التراكم التاريخي وتأثير الجغرافيا، سواء جغرافية الوطن ذاته بمختلف تضاريسه، أو جغرافية موقعه بين شعوب وحضارات لم يكن يوماً معزولاً عنها، واختصار هوية الإنسان أو الشعب في الدين محاولة غير دينية، لكنها توظيف للدين، على حساب ضمور شخصية الإنسان وعقم حضارته.
في مجال الدين ذاته ليس من الصحيح الادعاء أن الدين الإسلامي هو المعبر عن هوية الأمة المصرية بكاملها، فهناك قطاع أو قطاعات من هذه الأمة -صغر حجمها أم كبر- لا تدين بالإسلام، ومن غير المقبول، بل المرفوض إنسانياً وإسلامياً فرض الإسلام كعنوان لها، ومن ثم يكون أي سعي في هذا الاتجاه هو من قبيل الهيمنة والقهر، وليس من قبيل بلورة هوية الأمة والحفاظ عليها.
لا يرجع الأمر فقط لمجرد توزع المصريين على أكثر من دين، لكل منها جذوره الراسخة في الشخصية المصرية، فالموضوع أعقد من ذلك بكثير، فالمسيحية التي وفدت إلى مصر أخذت طابعاً مصرياً، يتفق في الخطوط العريضة مع المسيحية في سائر أنحاء العالم ربما (وإلى حد ما)، لكن أبداً ليس في التفصيلات، ونعرف أن التفصيلات هي التي تحدد شخصية المؤمن العملية ونهجه في الحياة ونظرته إلى العالم، وشتان بين نهج ومفهوم المسيحي المصري لدينه، وبين نهج ومفهوم المسيحي الأوروبي أو الإفريقي، ونفس هذا يقال عن الإسلام والمسلمين، الذين يختلف مفهومهم للدين الإسلامي عن مفهوم أهل البادية.
وإذا كان المصريون منقسمون أغلبية وأقلية بين دينين رئيسيين هما الإسلام والمسيحية، فإن بين مفهوم هؤلاء وأولئك كل لدينه جزءاً مشتركاً لا يستهان به، ويرجع بعض من هذا الجزء إلى المشترك المصري الخاص المتوارث، وجزء آخر للتأثير المتبادل بين الفريقين، فهناك حقيقة قد يرضى أو لا يرضى عنها البعض (سيَّان)، أن الحياة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين في مصر نتج عنها تواجد ملامح من المسيحية في إسلام المسلم، وملامح من الإسلام في مسيحية المسيحي، بالطبع لا نتحدث عن العقائد والفروض الأساسية، التي يتمسك فيها كل طرف بأصول دينه، لكننا نتحدث عن القيم الدينية المؤثرة في التعاملات والحياة اليومية للفرد، وفي الضمير الجمعي للأمة، وهي ما نعتقد أنها تشكل بحق هوية الإنسان المصري.
نستطيع القول أن بين الإسلام المصري والمسيحية المصرية من الوشائج والمشتركات والقابلية للتواصل والحياة المشتركة، بأكثر مما بين المسلم المصري والفكر الوهابي القادم من الصحراء، وأكثر مما بين المسيحي المصري والفكر المسيحي الغربي، لهذا يكون القول المطلق دون تحديد المفاهيم أن “دين الدولة الإسلام” لا يعبر عن الهوية المصرية الحقة، وما يعطي قولنا هذا الآن ما يبرره أن صيحات المتصايحين وراءها تيارات التأسلم السياسي، حاملة لواء التعصب البدوي الوهابي.
الجماعة المحظورة تهدد وتتوعد من يقترب من المادة الثانية من الدستور، ليس لأنها تنظر للوطن المصري وحقيقة هويته ومصالح مواطنيه، وإنما لأنها تسعى لدولة (خلافة) إسلامية عالمية، وتعتبر أدبياتها وفتاوى رموزها أن الوطنية كفر وخروج على الدين، ولا مانع لدى مرشد الجماعة المحظورة أن يأتي مسلم ماليزي أو سنغافوري ليحكم مصر، أما مصر وشعبها فهي عند فضيلته مجرد “طظ” كبيرة!!
لقد تم النص في الدستور المصري على أن دين الدولة الإسلام عام 1923، ورغم أن المسيحيين وقتها كانوا ناشطين سياسياً، ومتواجدين بقوة في القيادة السياسية، إلا أن أحداً منهم لم يعتبر أن في هذا النص قهراً أو تهميشاً للأقباط، لأن الفهم السائد للدين الإسلامي وقتها كان هو الفكر الذي تعايش في ظله المصريون جميعاً قرونا طويلة، لم يتخللها من الأزمات إلا القدر اليسير الذي تحتمه طبيعة تعايش أطراف عدة على أرض واحدة، بل وكان النهج والمنحى وقتها يتقدم نحو المزيد من الحداثة وحسن التعايش والتكاتف بين جميع مفردات الأمة المصرية، وظل الحال على ذلك إلى ما يقل قليلاً عن نصف قرن، حتى أتى طلاب السلطة والثروة بمفاهيم جديدة ومغلوطة وغريبة على التربة المصرية باختلاف مكوناتها الدينية، وتختلف بالأساس مع فهم المسلم المصري لدينه.
الفكر الذي يروج له الآن (وعن طريق وزارة الأوقاف المصرية) يعتبر أن غير المسلمين مكذبين، وأن المكذبين كافرين، وأن الكافرين ينبغي سفك دمائهم.
وبناء على ذلك الفكر المستورد أيضاً واستناداً إلى المادة الثانية من الدستور يرفع أحدهم قضية أمام المحاكم، يطالب فيها بتطبيق حد الحرابة على مذيعة قدمت برنامجاً ثقافياً يكشف ما نصر على أن نغمض عيوننا عنه من عورات مجتمعنا، ويفعل نفس الشيء ذلك المترئس للجنة الحريات بنقابة المحامين المصرية، في حين لم يتخذ هؤلاء ذات الموقف ممن قاموا بالتفجيرات في طابا وشرم الشيخ، وقبلها في الأقصر وسائر أنحاء وطننا، والعجيب أن هؤلاء الرافضين لكشف أخطاء المجتمع يفعلون ذلك تحت راية الادعاء بأنهم حماة الفضيلة، رغم أن أبسط إعمال للعقل والمنطق يكشف لنا أنهم بذلك يتسترون على الرذيلة، لتبقى الصورة الخارجية براقة، وتحت الأكمة ما تحتها!!
لكل هذا يجب علينا اليوم جميعاً -المسلمين قبل المسيحيين- أن نقف بشجاعة وصلابة في وجه خفافيش الظلام، وأن نضع النقط فوق الحروف، لنسد عليهم جميع المنافذ، أما عن الدين الإسلامي والمسيحي فهما في قلوب وعقول جميع المصريين، بدون الدستور، وبدون متاجرة المتاجرين، وسيظل الشعب المصري إلى أبد الآبدين مؤمناً بالله وبرسله، لكنه لكي يستأنف مسيرته الحضارية التي تتعرض الآن لانتكاسة خطيرة، عليه أن يصد عن مصر كل رياح صفراء أو سوداء، فبهذا نحافظ (نحن) على هوية مصر من التدمير.
kamghobrial@yahoo.com
* الإٍسكندرية