سوف نستطلع الأحداث والتصورات بدقة شديدة قبل الإجابة على السؤال المطروح في عنوان المقالة، لأن سوريا ما زالت عضواً في الجامعة العربية، والسوريون شعب معروف بعاطفته القومية القوية، بينما تتمتع نخبته السياسية والثقافية بمستوى عالٍ من الوعي. إلاّ أن تاريخ العرب والعالم لا يخلوا من تغيير دول وأنظمة مواقعها بسرعة تصعب على التصديق، وقد فعلت ذلك تحت ضغوط معينة، أو نتيجة تخبط سياسي قاد حكامها في النهاية إلى الخيار الأسوأ ظناً منهم أنهم يرفعون قيمة بلدانهم داخل المحيط الموجودة فيه!
من الناحية الثانية، وبناءً على الأسباب التي أثارت هذا السؤال، نجحت إيران، المعروفة بنهجها السياسي المندفع باتجاه خلق نفوذ فعال لها داخل المنطقة العربية، في استغلال ظروف سوريا لربطها بأواصر عسكرية وأمنية وسياسية متينة، أخرجت سوريا عملياً من الصف القومي ونقلتها إلى الجانب المقابل في ما يعتبر صراعاً ظل صامتاً لفترة طويلة بين إيران وبين العرب، حول الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.
عملياً، لا توجد مخاطر تهدد الكيان أو السيادة السورية يمكن قياسها بما يهدد الدولة الإيرانية من مخاطر منظورة نتيجة تحديها المجتمع الدولي في موضوع التخصيب. مع ذلك سجلت علاقات دمشق بإيران معدل خطوتين لصالح إيران مقابل كل خطوة تبتعد فيها عن العرب!
شخصياً، ومن باب المقارنة، فيما يخصّ تهديدات خامنئي عن ضرب مصالح أمريكا في كل مكان من العالم، التي لم يقدم الرئيس السوري إزاءها تفسيراً يطمئن العرب إلى أن تحالفه مع إيران لن يشكل خطراً على المصالح العربية، لا أعتقد أن الإسرائيليين، المعروفين بمهنيتهم العالية في القتال والسياسة، فكروا، أو يفكرون في أي حرب مع العرب بتدمير منابعهم النفطية، بينما يضع الإيرانيون عملاً كهذا ضمن حساباتهم في أي مواجهة مع أمريكا.
لهذا يستحق موضوع انحدار الزورق السوري في المياه الإيرانية طرح الأسئلة التي قد تبدو غريبة للكثيرين، وقبل ذلك بحث أصول العلاقة بين البلدين، وآثارها على سوريا، سواء ظلت داخل الصف العربي، أو عملت مستقلة عنه.
سورية:
تصوّر جرائد دمشق زيارة عدد من الوفود الغربية على أنها مرحلة جديدة من الانفتاح على سوريا. وذهب نائب رئيس الوزراء عبد الله الدردري في مقابلة مع الفايننشال تايمز 22 ديسمبر الماضي إلى أن عزلة سوريا دولياً انتهت وأن القوى الغربية أدركت ضرورة العمل مع دمشق!
َييدَ أن عام 2006، الخصب دبلوماسياً في نظر السوريين، سجل ثلاث زيارات غربية فقط لسوريا، واحدة منها لوفد برلماني أوربي (19 حزيران) ترأسته بياتريس بياتري جاء لحث النظام على إطلاق سراح مأمون الحمصي ورياض سيف.
والثانية وصول وفد سياحي ألماني زار حلب عن طريق سكة الحديد التي تربط سوريا بتركيا.
والثالثة جاءت من أمريكا بعضوي مجلس الشيوخ الديمقراطيين جون كيري المرشح السابق للرئاسة، وكريستوفر دود، وكانت لإستطلاع مدى استعداد دمشق لتغيير سياستها تجاه لبنان والعراق.
أما نشاط الرئيس السوري للعام نفسه، فقد اشتمل على أربع زيارات روتينية لجمهورية اليمن ودولة الإمارات وروسيا، ثم الخرطوم لحضور مؤتمر القمة، وزيارة عاجلة للقاهرة طلب فيها الرئيس المصري منه عدم تأزيم الأوضاع في لبنان وغزة والعراق.
وبهذا لا تكون العزلة الدولية لدمشق قد انتهت كما ادعى الأستاذ الدردري، رغم أننا نتمنى لسوريا دوراً دولياً، أو إقليمياًً بناءاً مثلما كان لها في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد. إلا أن التحالف الإستراتيجي الذي أبرمه بشار الأسد مع إيران عام 2005، والإذعان لسياسات طهران الهادفة إلى مدّ نفوذها إلى مناطق عربية مهمة ، رمى بسوريا بعيداً جداً عن محيطها الأصلي.
يعود الخطأ الأكبر الذي حوّل سوريا من دولة عربية كبيرة حريصة على الأمن الإقليمي العربي إلى دولة ضالعة في التآمر عليه، إلى الشعور الذي تأسس لدى الرئيس حافظ الأسد بعد تمسكه الطويل بالسلطة، بأن حكم سوريا يمكن وضعه على كاهل العائلة من دون المساس بدستوره الجمهوري. وقد راح الأسد الأب يؤهل ابنه الأكبر لتولي السلطة بعده، وشجع بهذا الابتكار جميع الحكام العرب الذين جاءت بهم الانقلابات العسكرية إلى السلطة على التفكير بتحويل الأنظمة الجمهورية الانتخابية إلى أنظمة جمهورية وراثية، مما خلق بلبلة قانونية وجدلاً شعبياً معارض لم ينته حتى اليوم. مع ذلك لم يخرج أي من الرؤساء العرب الذين استهوتهم فكرة التوريث عن الصف العربي في مجال الأمن الإقليمي العربي، ولم ينتقل أي منهم إلى محور خارجي يضمر في سياسته السرية والعلنية أطماعاً تشكل خطراً على أمن واستقرار الدول العربية حتى مجيء بشار الأسد إلى الحكم بعد وفاة والده.
فيما يتعلق بسوريا آنذاك، أحزنت وفاة الابن الأكبر (باسل) الرئيس حافظ الأسد، لكنها لم تقض على مشروعه، فلجأ إلى ابنه الآخر، بشار، انكب على تأهيله ليواصل ما أراد له أن يكون عهداً تاريخياً لآل الأسد في حكم سوريا. وانتقلت السلطة إلى بشار الأسد بسلاسة عام 2005 عبر مؤسسات الحزب الحاكم الواحد، الذي لم يبق على من يعارض قراراته، ثم ظهرت المشاكل عندما أراد الرئيس الجديد الاقتراب من القضايا التي عمل الأب على طمرها تحت التراب، وهي الفساد، حرية الرأي، والوضع في لبنان.
لعل أهم أسباب عجز أنظمة الحزب الحاكم الواحد عن تقديم جرعات صغيرة من الإصلاح في مجالي الفساد وحرية التعبير، أن متانة مؤسسات الحكم الشكلية فيها تعتمد الفساد وتحريم التطرق إلى وجوده، أي أن الفساد والتستر عليه قضيتان متلازمتان، وعندما نبه حزب البعث بشاراً إلى خطورة إزاحة التراب عن هاتين القضيتين على مصير النظام، تراجع الرئيس الجديد عن التفكير فيهما، غير أن القضية التي يصعب عليه دفنها ما شاء له ذلك هي قضية الهيمنة السورية على لبنان. ولأن البعث السوري لا يملك آفاقاً سياسية ديناميكية في تعامله مع المشاكل، اعتمد نفس أسلوب الداخل في بسط نفوذه العسكري والسياسي على لبنان، أي الفساد وتكميم الأفواه بالإرهاب، لذلك جاءت انتفاضة اللبنانيين على الوجود السوري بعد اغتيال الحريري 2005 أكبر من قدرات بشار الأسد على إدارة الأزمة اللبنانية-السورية.
أيضاً، لعل خبرة الرئيس بشار العصية على التطور حتى ببطء شديد، جعلت قضية حساسة، مثل الهيمنة على شعب تعوّدَ الحياة الديمقراطية، تربك الرئيس السوري الجديد، وتدفعه إلى التخبط في معالجة المشكلة.
فمنذ اليوم الأول لدخول قوات التحالف العراق وسقوط نظام صدام حسين، أصيب الأسد بالذعر، مما دفعه إلى ارتكاب خطأين قاتلين في آن واحد: الأول الاحتماء بإيران عبر تحالف إستراتيجي وضع دمشق تحت سيطرة دولة غير عربية، أكبر منها عسكرياً ومادياً وسياسياً. والثاني الطلب من البرلمانيين اللبنانيين تغيير دستورهم الديمقراطي ليسمح بتمديد ولاية ثالثة للرئيس إميل لحود، ظناً منه أن لحود الذي جاءت به سوريا لرئاسة الجمهورية يمكنه، بالتعاون مع حزب الله وبقية الموالين، منع أي مسعى أمريكي أو دولي لتهديد النفوذ الإقليمي السوري في لبنان!
بالنسبة لإيران، استقبل الرئيس السابق خاتمي بشار الأسد في 16 آذار 2003، مؤكدا ومطمئناً إياه إلى وقوف طهران إلى جانب سوريا إذا ما تعرض النظام فيها إلى التهديد. لكن الزيارة الثانية التي قام بها في الثاني من يوليو 2004 وجد لدى الإيرانيين في عهد الرئيس المتشدد أحمدي نجاد استعداداً لتطوير العلاقات بين البلدين إلى مستوى جديد من التحالف، ليشمل بنوداً سرية للتعاون والتنسيق في المجالات العسكرية والأمنية. أما بالنسبة للبنان، فقد كان بشار يتعامل مع أي تنبيه أو نقد من قبل اللبنانيين لأخطاء الإدارة السورية كمؤامرة إسرائيلية – أمريكية تستهدف الشعارات القومية للنظام السوري.
ويبدو أن التقدير الساذج للقيمة العملية لتلك الشعارات، التي كان البعث يستخدمها كغطاء للوجود السوري الذي تجاوز الفترة المقررة له في لبنان، هو الذي دفع الرئيس الجديد إلى نقل أدوات وأساليب القمع المتبعة في سوريا بحذافيرها على لبنان، لذلك، عندما استقال رفيق الحريري من الحكومة لكي لا يتعرض الدستور اللبناني إلى الامتهان في عهده، شهدت بيروت في 14 فبراير من عام 2005 أكبر انفجار إرهابي في تاريخها، أدى إلى مصرع الحريري وسبعة من مرافقيه، بينهم النائب باسل فليحان، إضافة إلى مائة جريح توفى اثنان منهما بعد أيام.
حدث اغتيال الحريري على شكل مذبحة هزت العالم العربي والدولي، مما أثار استنكاراً واسعاً. وحتى لو لم تكن سوريا وراء الاغتيال بصورة مباشرة، فإن وجودها العسكري والأمني الكثيف في بيروت يحملها مسؤولية الفشل في منعه. من تلك اللحظة بدأ العرب والدول الكبرى إعادة النظر في الوجود العسكري لسوريا في لبنان: هل توجد ضرورة لاستمراره؟ وهل نصّ اتفاق الطائف على اعتباره بلا حدود زمنية؟
وبعودة سريعة إلى التحالف الإستراتيجي بين إيران وسوريا، الذي يرفض النظام الحالي تسميته تحالفاً إستراتيجياً، ويفضل بدلاً من ذلك عبارة “علاقات إستراتيجية”. تعود علاقات سوريا بإيران إلى عام 1982، حيث بدأت باتفاقيات تجارية وفنية في مجال الصناعات الخفيفة، أدارها حافظ الأسد بحذر، لمراعاة مخاوف العرب من الأطماع الإيرانية وشعار تصدير الثورة، غير أن الهلع الذي أصاب قلب بشار الأسد لوصول القوات الأمريكية إلى العراق، ثم شعار “الشرق الأوسط الديمقراطي الكبير” الذي أطلقه جورج بوش، وأخيراً تداعيات اغتيال الحريري التي أجبرت سوريا على الخروج من لبنان، شكلت العوامل التي حملت الرئيس السوري وعبر زيارات سرية وعلنية سريعة لطهران على رفع مستوى العلاقات مع إيران إلى تحالف إقليمي إستراتيجي، رفضه الرئيس خاتمي عام 2004 حرصاً منه على عدم تعكير علاقات إيران بالدول العربية، ورحب به وحدّد مستواه أحمدي نجاد في 2005 ليخدم به مشروعه القومي وسياسته المتشددة تجاه الغرب!
بهذا يكون عام 2004 قد شهد البوادر الأولى لتدهور العلاقات السورية مع العرب، وراح خطها البياني يسجل تصاعداً متسارعاً حين طلب بشار الأسد من اللبنانيين في شهر آب 2004 من اللبنانيين تعديل الدستور ليسمح بإبقاء إميل لحود فترة ثالثة في الحكم، وكانت الصحف اللبنانية تكتب آنذاك عن تجاوزات سياسية واقتصادية ورشاوى ضخمة قامت بها الإدارة السورية في لبنان، فاعتبرت الحكومات العربية طلب بشار انتقاصاً للسيادة اللبنانية. ولا أشك أن بعض العرب من خلال سفرائهم نصحوا السوريين بعدم الإقدام على خطوة كهذه لما يترتب عليها من تفاعلات خطيرة، وحاول اللبنانيون عبر التصريحات والجلسات الخاصة إقناع دمشق أن أي رئيس جديد يخلّف لحود سوف يلتزم بالاتفاقات المبرمة بين البلدين، إلاّ أن الرئيس السوري أصر على رغبته، ونظر إلى النصائح العربية كتدخل في العلاقات السورية اللبنانية، وممانعة الزعماء اللبنانيين كتمرد على إرادته. وبعد استقالة الحريري من الحكومة وافق النواب الموالون لسوريا على التعديل والتمديد في ظل حكومة كرامي الموالي لدمشق، ووقع آخرون بعد تسلمهم تهديدات بالفاكس.
عند تلك النقطة، استنكر العرب علناً إرغام اللبنانيين على تغيير دستورهم من قبل الطرف الذي تعهد بصيانة سيادة لبنان ودستوره الديمقراطي مقابل بقاء قواته العسكرية بعدد يساوي مجموع القوات العربية التي نص على وجودها اتفاق الطائف! واعتبروا استهتار دمشق في لبنان غير مقبول لا عربياً ولا دولياً!
بعد اغتيال أكبر السياسيين المعارضين لسياسة دمشق في لبنان الرئيس رفيق الحريري، دخلت سوريا في عزلة تامة عن العرب، خاصة عن الدول العربية الكبيرة التي كانت سوريا تمثل الدرجة الثانية في مستواها من حيث الثقل القومي.
الآن، نعود إلى عنوان هذه المقالة لنطرح سؤالاً تمهيدياً: هل بقي لسوريا دور إقليمي ينفع العرب؟ أم أنها ستغرق أعمق فأعمق في التحالف الإستراتيجي عبر خلط جميع أوراقها بأوراق طهران القومية والأيديولوجية؟
يوماً ما سيجد النظام السوري نفسه مجبراً على التحرر من المظلة الإيرانية الثقيلة، التي ربطت مصير الكيان السوري بمصير النظام الديني الإيراني. أما على المدى المنظور فلم يعد بمقدور الأسد الفكاك من تحالف تشابكت فيه المصالح والأهداف بخطط المؤسسات العسكرية والأمنية والمخابراتية للبلدين. خاصة وأن الأسد الجديد محاط بطاقم من المسؤولين الممتهنين ومن كبار السنّ، تعودوا، تاريخياً، تنفيذ أفكار ورغبات رئيس الدولة بلا نقاش، حفاظاً على موقعهم ضمن الهرم الوظيفي الموجودين فيه.
في حالة كهذه، ستبقى سوريا في عزلتها عن محيطها العربي وارتباطها الشديد بسياسات إيران، وستكون هذه المرحلة هدفنا في التحليل عبر متابعة الوجهة التي يسير نحوها التحالف الإستراتيجي بين الدولتين في ظل الحكم السوري الحالي.
ما الذي تجنيه سوريا من تحالفها مع إيران؟
تذكر المؤشرات الاقتصادية للعام 2006، أن حجم الصادرات الإيرانية لسوريا وصل إلى ثلاثة أضعاف مقابل واحد. وقد لا نعرف بدقة كميات الأسلحة التي قدمتها إيران لسوريا ومدى أهميتها، لكن دمشق ما زالت تعتمد في تسلحها الثقيل على روسيا والصين، وفي هذا المجال قدمت طهران بعض الائتمانات المصرفية للديون المستحقة والجديدة المترتبة على السوريين لموسكو. ومقابل نقل التجهيزات الإيرانية لحزب الله، وتجنيد الموالين لدمشق في دعم سياساته في لبنان، كجزء من تعهدات سوريا في الحلف. قررت السلطات القضائية في محافظة خوزستان الإيرانية في الخامس من حزيران 2006 حظر حزب يمثل العرب في المحافظة، ونقلت وسائل الإعلام الإيرانية عن السلطات القضائية في مدينة الأهواز عاصمة المحافظة تبرير قرار حظر حزب “لجنة الوفاق” بأنه يزيد التوتر بين العرب والفرس ويخالف النظام الإسلامي.
وعدا ذلك فالمفروض بقيام أي تحالف إستراتيجي وجود عدو مشترك، وفي حالة دمشق وطهران تمثل الولايات المتحدة الأمريكية العدو المشترك للبلدين، وتنظر إليه الحكومة الدينية في إيران كعدو شيطاني، أما دمشق فتنظر إليه كعدو يهدد النظام، وهذا أخطر من حقيقة صورته اللاهوتية!
إذا كانت طهران تعتمد في مجابهتها لما تسميه عدواناً أمريكياً ضد إيران على الحرس الثوري والجيش وأسلحة صاروخية لا يتعب القادة الإيرانيون من التهديد بحيويتها، فإن دمشق تعتمد فقط على الجيش الذي لم تُختبر قدراته منذ حرب 1973، مع مظلة صاروخية قديمة لحماية العاصمة. لكن الطرفان يتعاملان بأوراق إقليمية تشكل مرتكزاً رئيسياً لمناوراتهما السياسية مع أمريكا والغرب والعرب أيضاً. أي أنهما يستخدمان ثلاث مشاكل إقليمية للمناطحة مع أمريكا والمجتمع الدولي، هي لبنان وفلسطين والعراق. وقد اعتمدت طهران ودمشق الإبقاء على النزف البشري في المناطق المذكورة لتهديد واشنطن وابتزاز العرب: أولاً، للاعتراف لهما بدور إقليمي نافذ في الشرق الأوسط، وثانياً عدم استخدام أمريكا قوتها العسكرية لضرب إيران بالذات، لأن واشنطن، واحتراماً لعلاقاتها بالحكومات العربية المعتدلة، لن تلجأ إلى إسقاط النظام السوري بالقوة كما فعلت في العراق.
إلاّ أن الرئيسي السوري تعامل مع هذه الحقيقة بنزق لم يسبق لأي من الرؤساء العرب اللجوء إليه حتى وهم في قمة خلافاتهم، الصامتة أو المعلنة، حين وصفهم بعد ضرب إسرائيل حزب الله في حرب يوليو بأنهم أشباه رجال، وكان يعني عدم إرسال طائراتهم وجنودهم لحماية الحزب من إسرائيل، وكان بشار نفسه، الأقرب إلى لبنان، لم يحرك ساكناً عسكرياً للتدخل في تلك الحرب، مثلما لم تتدخل سوريا ضد أي اعتداء إسرائيلي على لبنان طوال ثلاثين عاماً من وجودها في لبنان!
لقد عمل هذا السباب الأخرق على قطع آخر الخيوط بين النظام السوري والعرب، حيث شعروا أن أي جهود لإعادة نظام دمشق إلى الصواب لم تعد ذات جدوى. مع ذلك التزموا موقفاً قومياً صريحاً مما يحدث في العراق ولبنان وفلسطين على أيدي الإيرانيين والسوريين.
على صعيد لبنان:
سياسياً أو قومياً، ومنذ تولي السيد حسن نصر الأمانة العامة لحزب الله، لم يعد هذا الحزب يرتبط بلبنان أو المنطقة العربية بصلة، غير صلة الرحم التي كانت تربط نيرون بروما. فقد غدا قادته وأنصاره منوّمين أيديولوجياً، يتعبدون لرجال الدين الإيرانيين ويحرضون العرب على قتل رؤسائهم لأنهم لا يمدون أيديهم لطهران. ويعتبر هذا الحزب، بعد تجهيزه وإغداق مليارات الدولارات عليه، أكثر الأوراق بريقاً في أيدي الإيرانيين والسوريين. لأن وجوده قريباً من الحدود الإسرائيلية يمنحه امتياز إشعال الحرب بين لبنان وإسرائيل كلما احتاجت طهران إلى تذكير أمريكا أو العرب بورقتها المتميزة في قلب المنطقة العربية.
وعلى الصعيد اللبناني، بعد سقوط الحزب من أعين اللبنانيين إثر الدور الترخيبي الذي قام به لفرض التعديل على الدستور والتمديد للحود، ثم وقوفه بعناد ضد المحكمة الدولية الخاصة بالنظر في اغتيال الحريري والآخرين المعارضين لسوريا، خططت القيادة الإيرانية لإعادة الاعتبار للحزب باختطاف جندي إسرائيلي على الحدود لإطلاق سراح عدد من السجناء اللبنانيين والعرب، ثم تقديمهم في استعراض ضخم يخطب فيه حسن نصر الله. وكان أقصى ما تتوقعه القيادة الإيرانية ينحصر في قيام إسرائيل بقصف بعض معسكرات الحزب في الجنوب، يتبعه مباشرة التفاوض حول إطلاق سراح الجندي! إلاّ أن ردّ تل أبيب الواسع النطاق ودخول الجيش الإسرائيلي لبنان من جديد في يوليو، أغرق حزب الله في حفرة ضيقة رُجّمَ فيها الحزب وقادته مع قادة طهران ودمشق، بعد أن شهد اللبنانيون الدمار الذي لحق بالجنوب والضاحية الجنوبية من بيروت.
بالنسبة للعراق:
في تقرير أمني سعودي نشرته الواشنطن بوست في 19 ديسمبر من العام الماضي جاء: “أن إيران أنشأت دولة شيعية فعالة ضمن الدولة في العراق، وأنها تتحدّى العراقيين السنّة والدول السنية المجاورة على السواء. وأوضح أن القوات المسلحة الإيرانية تزوّد الميليشيات الشيعية بالأسلحة وتعمل على تدريبها، وان الجمعيات الخيرية الإيرانية تغدق الأموال على المستشفيات والمدارس، وان طهران تنشط في دعم السياسيين العراقيين المؤيدين للجمهورية الإسلامية”
هذه صورة حقيقية لما تفعله إيران في العراق، يضاف إليها أن المعدل اليومي للقتلى العراقيين في الشوراع سجل ما بين 30 إلى 100 مواطن يومياً. وقالت الأمم المتحدة في تقرير خاص بها: إن أكثر من 34 ألف مدني عراقي قتلوا في أعمال عنف خلال العام الماضي.
وقال جياني ماجازيني رئيس مكتب حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في العراق في مؤتمر صحفي إن 34452 مدنيا قتلوا وأصيب أكثر من 36 ألفا آخرين.
وقتل 6376 شخصا في نوفمبر وديسمبر منهم 4731 في بغداد وحدها.
إلا أن إيران لا تقوم وحدها بتنشيط عمليات القتل اليومي للعراقيين، بل تساهم دمشق، ضمن توزيع بارع للادوار، في نصيبها الأكبر من العمليات الإرهابية، إذ تسهل إقامة التكفيرين في سوريا قبل عبورهم الحدود إلى العراق.
على الصعيد الفلسطيني:
لأول مرّة في تاريخ غزة، حوّلت حركة حماس الخلافات بينها وبين السلطة الفلسطينية إلى مواجهات بالسلاح وسط الشوارع. ويقول قادتها المقيمون في دمشق، المنخرطون في التحالف الإستراتيجي الإيراني السوري كمنفذي أدوار هامشية، إن حماس سوف تلتزم ثوابتها وليس أوراق تكليف رئيس السلطة. ويطلبون، بوجوههم الصبوحة التي لم تمسّها الحاجة إلى الطعام يوماً، إن على الفلسطينيين أن يضحوا ويقبلو العمل بأنصاف وأرباع رواتب حتى نحقق لهم تحرير كل الأراضي المحتلة!
ورغم الاتفاق الجديد الذي رعته المملكة العربية السعودية مؤخراً، إلاّ أن غالبية الفلسطينيين ما زالوا يشكون بنوايا حماس ما دامت ربطت نفسها وعملها السياسي بمخططات إيران وسوريا!
الآن، لو دققنا النظر في معنى التهديدات الإيرانية المستمرة لأمريكا، سوف نجدها تتركز على سلاح واحد تراه فعالاً في تخويف واشنطن، سواء لمنعها من ضرب إيران عسكرياً أو في ردعها عن التخطيط للقضاء على النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
إستراتيجياً، تعني إيران بمصالح الولايات المتحدة تجارتها النفطية التي تعتبر سواحل الخليج أهم شرايينها. هذا يعني أن حليف دمشق الإستراتيجي يضمر، تكتيكياً، توجيه ضربة لمنابع النفط العربية انتقاماً من أي عمل أمريكي عسكري! ولا يبدو على الرئيس السوري أنه قلق من هذه النية الإيرانية المبيتة ضد العرب.
إذن النظام السوري يبتعد كثيراً عن محيطه القومي، ويتخلى ضمن وتيرة متصاعدة عن دوره الإقليمي الذي كان يرفد مصالح العرب المشتركة من قبل، ويتحوّل إلى عدو متربص باستقرار وأمن المنطقة.
في السادس من فبراير الحالي، وقف الرئيس السوري بشار الأسد وقفة الباعة الذين ينادون على بضاعتهم في الأسواق الشعبية ليقول: “إن المشكلة في العراق سياسية… لسنا اللاعب الوحيد، لكننا اللاعب الأساسي” وكان الأسد يدعو الإدارة الأمريكية كي تقصد سوريا لإيقاف الدمار والقتل في العراق.
أي أنه يعترف بدوره الأساسي في سفك الدماء التي تجري في العراق بمعدلات مخيفة، ودوره الأساسي في تهديد الاستقرار والأمن في لبنان، ودوره الثالث، الأساسي، في جعل الخلاف بين السلطة وحماس مستعصياً على الحلّ. وبهذا يسجل العهد الثاني لآل الأسد في الحكم أسوأ ما يتوقعه العرب من دولة عربية!
arifalwan@yahoo.com
* كاتب وروائي عراقي يقيم في إنكلترا