استحث الأستاذ عبد العزيز القاسم بعض المراجع الشيعية على إيضاح موقفهم من إعدام صدام حسين في مقالة له في ملحق الرسالة ، ودعا إلى التقريب بين المذاهب وإطفاء نار الاختلاف المذهبي التي امتدت ألسنتها لتنتهك مفهوم المواطنة وتعبث بالوحدة الوطنية في كافة أقطارنا العربية ! وكنت أتمنى أن يوجه الأستاذ القاسم نداءه لكل المرجعيات الدينية السنية منها والشيعية في كل البلاد العربية ، لينددوا بالطائفية ويحاولوا إخماد جذوة اشتعالها ، فليس فقط الشيعة من يقتلون السنة في العراق ولكن كلا الطائفتين تمعن قتلا في الأخرى منذ أن تفجرت الأوضاع بعيد حادثة تفجير مرقد الإمامين في سامراء ! وحريٌِ بكل المرجعيات الدينية أن تدعو الناس إلى الانضواء تحت مظلة المواطنة نابذين اختلافاتهم وانقساماتهم وراء ظهورهم ، فالوقت هو وقت التعاضد والتضامن والوقوف صفا واحدا في وجه محاولات أمريكا للعبث بشرق أوسطنا !
الكارثة أن نار الطائفية التي تأججت في العراق والتي تحرق الأخضر واليابس هناك ، وتجز الرقاب وتنتهك حرمة الأبرياء ستنشب ألسنتها في العالم العربي بأسره ، وتقوده إلى ما لايحمد عقباه وما ستكون عواقبه كارثية على كافة المستويات . والمؤسف أن ينجر الناس وراء حمم الطائفية ، ويتناسون خطر الاستعمار وأياديه الخفية ، وينقادون وراء ما خطط لهم برعونة وحماقة !
فبينما يبكي حتى الطير والشجر والنهر في العراق على الوطن الضائع وعلى الأرواح البريئة التي تسفك يوميا فوق ترابه ، و ينشغل العراقيون باختلافاتهم وانقساماتهم والعمليات الانتحارية والتهجير الطائفي والقتل على الهوية ، يحاول الاستعمار تمرير قانون ليوافق عليه البرلمان العراقي . هذا القانون يقضي بحصول شركات أمريكية وبريطانية على عقود احتكار استغلال النفط العراقي لثلاثين سنة قادمة تستحوذ فيها هذه الشركات على 75 % من عائدات البترول خلال هذه المدة المقررة ،و تستولي على ثروات العراق تاركة أهله بين براثن الفقر والعوز والفاقة !
لا يزال الشارع العربي يترنح ذات اليمين وذات اليسار منذ حادثة إعدام صدام حسين المشهودة والتداعيات التي تلتها متغافلا عن الخطر الحقيقي ، ولا يزال الوعي الجمعي العربي يتقلب على جمار التحزبات ويصطلي بنار الرؤى المتضادة المتناقضة التي حولت بعضها الطاغية إلى بطل مغوار والجلاد إلى ضحية ! و راحت تقسم أن قسمات صدام (الشهيد ) قد نقشتها قدرة الخالق على ظلال القمر لتكون شاهد براءة ودليل إثبات على منزلة الرجل عند الله سبحانه وتعالى !! وهو مرة يُشبه بالمثنى بن حارثة وأخرى بعمر المختار وثالثة بصلاح الدين الأيوبي !
أو تلك الرؤى الأخرى التي احتفت بموته ورقصت فرحا وبهجة بإعدامه تارة أخرى ، دون أن تلقي كثير اهتمام إلى قدسية الزمان الذي نفذ فيه حكم الإعدام وروائح التآمر التي فاحت منه !! ولا إلى الرموز والدلالات المتهدلة من اختيارات مكان الإعدام أو الرهط المتشفي القائم على العملية ، والهتافات الطائفية التي صحبت صدام حتى تم إزهاق روحه والتي توغل حفرا وتعميقا في خندق الاختلاف المذهبي ! مما ساهم في مساعدة أمريكا على التملص من تهمة إعدام صدام بتلك الطريقة وقي ذلك التوقيت ، فراحت تلقي بالاتهام كاملا على عاتق الحكومة العراقية ، وكلنا يعلم أن أمريكا تعمدت تسليمه إلى جلاديه وهي تعلم تمام العلم ما سيحدث بعد ذلك !
ولا زالت هذه الحادثة أيضا تستفز الأقلام وتستدر مدادها ، وتستدعي الرؤى والأفكار المتضادة ، وتحرض العقول على اقتناص زوايا جديدة للصورة أو ملامح مستترة تحت طيات الحدث الظاهري ، ولعل هذه الحادثة ستبقى موضوعا للكتابة ومادة للبحث والجدل والقراءة ردحا من الزمن!
وغني عن الذكر أن أقلام كثيرة سقطت في مستنقع الدفاع عن الطاغية وتورطت في نظم القصائد في مآثره وتقديم الدفوع المبرئة لساحته من كافة جرائمه !! قلم كاتبة أردنية ونائبة سابقة معروف بولائه الصدامي قلد الطاغية وسام الشهادة الرفيع الدرجة قائلة أن الشهادة تجب ما قبلها ! متألية على الله تعالى ومدعية أنه حصل على تمام البراءة وكامل الغفران فالشهادة كفيلة بجب ما قبلها !!وذلك في مقال ناري يستهدف شحن مشاعر الجماهير المتهيئة لالتقاط شرارة تشعل أكوام القش التي راكمتها الأحداث العاصفة بشرق أوسطنا المنكوب ! ولا عجب ففي زمن الفوضى الخلاقة التي صنعتها أمريكا في هذه البقعة من الأرض يصبح الجلاد شهيدا !! وتضحي أحقية منح صكوك الشهادة والغفران ملكا لاكليروس القلم ولأباطرة السلطة الثقافية المغازلة لوعي الجماهير المتعطشة لرمز الفارس المغوار الواقف بصلادة وقوة في وجه الاستعمار! فتنسى الجماهير بجرة قلم ولفة حبل طوق عنق الطاغية ماضيه الأسود الملطخ بدماء شعبه سنة وشيعة .. عربا وكردا !!
على الجانب الآخر هلل كتاب آخرون وصفقوا لإعدام صدام فاستلُت الأقلام من أغمادها وراحت تهلل وتبارك إعدام صدام ولولا الملامة لأطلقت الزغاريد وقرعت الطبول وحزمت الخصور!! ولم تتوقف مطلقا أمام مشاهد التأجيج الطائفي الرامية إلى تفرقة المسلمين وشرذمتهم ولا إلى التداعيات الكارثية لعملية الإعدام والتي كان يحبل بها الأفق العراقي المخضب الجبين بالدماء !
وراحت أقلام أخرى تدلي بدلوها فتبتهج لموت الطاغية وتهلل لذلك ، زاعمة أن في موته دلالة رمزية على موت الطغيان والقضاء الساحق الماحق على ثقافته !! قافزة على حقيقة أن سقوط الطاغية فرخ طغيانا آخر ألذع مرارة وأشد قسوة ، بل لعله رسخ لثقافة متأصلة ومستشرية في البنية العقلية العربية .. وأعني بها ثقافة عبادة الأصنام البشرية ونصب قبب القداسة فوق رؤوسهم !! قافزة أيضا على حقيقة أن العالم العربي السعيد لا يزال يرزح تحت ثقافة الطغيان سواء ذلك المدموغ منه بالطبعة العربية المحلية .. أو تلك الأخرى الاستعمارية التي زعمت أنها قدمت لتقدم لعالمنا رحيق الديمواقراطية وشهد الحرية !!
كاتب أردني آخر فتح دفاتر التاريخ ليستدعي قصة الجعد بن درهم مع خالد القسري وراح يدافع عن توقيت الإعدام قائلا أن إعدام صدام لم يسجل سابقة في تاريخنا ! فقد ضُحي يوما ما بالجعد بن درهم وذبح كما تذبح الشاة في يوم العيد ، فلا بأس ولا حرج أن نسير في طريق سلكه من قبلنا أسلافنا !!
وراحت أقلام أخرى تحاول عبثا عقلنة الشارع العربي وإعادته إلى جادة الصواب وتخليصه من حالة السعار التي انتابته منذ إعدام صدام ، ومحاولة انتشاله من هوة التخندق الطائفي التي ينجرف إليها وهو مغمم البصيرة غير مدرك أنه يتبع الخطة الاستعمارية في تحويل الشرق الأوسط الجديد إلى كانتونات طائفية وتقسيمات مذهبية !! ولكن يبدو أن كل محاولات عقلنة الشارع تذهب أدراج الرياح ! كيف لا والنخبة المثقفة ذاتها تتخبط في نير التحزبات والتعصبات والتشرذمات ولا ينجو منها إلا من رحم ربي !!
وإذا كنت من مستخدمي الانترنت فلا بد أن رسائل الكترونية من شاكلة أنظر كيف يحتفلون بمقتل عمر بن الخطاب تزورك في صندوقك البريدي رغما عن أنفك ، بينما تمعن أخرى في إشعال جذوة الطائفية برسالة تطالبك فيها بمقاطعة منتجات الشيعة في المملكة وذلك على غرار مقاطعة المنتجات الدنماركية !! كما تحفل المواقع الالكترونية بردود تعبق برائحة الطائفية البغيضة على كل مقال يحاول تهدئة الشارع وقمع الفتنة الطائفية والمطالبة بالتقريب بين المذاهب .
الفتنة الطائفية التي خطط لها ببراعة من قبل الاستعمار والتي نستجيب لها بكل سذاجة ، لن تقود العالم العربي إلا إلى فوضى شاملة ومدمرة تقضي علينا سنة وشيعة.. ونعلم جميعا من سيكون المستفيد !
Amal_zahid@hotmail.com
* المدينة