إنّ الطغم العسكرية التي اغتصبت البلاد والعباد وسيطرت على مقاليد الحكم في بعض الأقطار بعد جلاء الاستعمار، حوّلت الإتجار بالمسألة الفلسطينية إلى درع يقيها من أيّ محاولة لنقدها من جانب المواطنين. لقد أضحى شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» كاتم صوت للبشر في كلّ تلك الأقطار. غير أنّ الحروب التي خاضتها تلك الطغم باسم فلسطين جلبت على شعوبها مزيداً من المآسي، ناهيك بتبذير الموارد الوطنية التي ذهبت أدراج الرياح مع مغامراتها وهزائمها المتكررة. ليس فقط أنّ تلك الطغم لم تحرّر أرضاً ولم تبنِ شعباً ولم تجلب الازدهار، بل انصبّ جلّ اهتمامها على التشبّث بالسلطة دونما ارعواء من استخدام أعتى آليات القمع.
وفي هذه الأثناء، واصل الفلسطينيون العيش في تيه العالم العربي ينتظرون مقررات القمم العربية التي ألقمتهم بلاغة قومية بلا رصيد. ثمّ بدأت المنظمات الفلسطينية تلعب أدواراً خطيرة في بعض البلدان العربية، مثلما حصل في الأردن، وتكرّرت هذه اللعبة لاحقاً في لبنان وكان ما كان عقب الاجتياح الإسرائيلي في حرب لبنان الأولى.
طوال هذه الأعوام، ظلّ الفلسطينيون في الضفة والقطاع في حالة اتّكالية ينتظرون أن يأتي الفرج من الأنظمة العربية ومن منظمة التحرير. غير أنّ اتّفاق السلام المصري – الإسرائيلي أخرج مصر من اللعبة الحربية، وجاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان لينهي الوجود العسكري الفلسطيني في الجبهة الشمالية. لقد خرجت الجبهة الشرقية، الأردنية، من اللعبة العسكرية بعد أيلول الأسود، أمّا الجبهة السورية فلم تكن في يوم من الأيام ذات بال، إذ منذ حرب 1973 لم تطلق منها رصاصة واحدة.
وهكذا، ومع انسداد جميع الجبهات العربية مع إسرائيل، لم يتبقّ طريق أمام الفلسطينيين في المناطق المحتلة سوى طريق الاتّكال على النفس. هذه هي الخلفية التي نبتت فيها بذور الانتفاضة الأولى. لكن، وفي هذه المرحلة بالذات، جاء الغزو العراقي للكويت، وقامرت القيادة الفلسطينية على النظام العراقي، فخسر الفلسطينيون تعاطف الكويت وسائر دول الخليج. وهكذا بدأت تبحث هذه القيادة عن مخرج من المآزق التي وجدت نفسها فيه.
لقد مهّدت لحظة الضعف هذه الطريق إلى اتّفاقات أوسلو، على كلّ ما تضمّنته من بنود وقّعتها قيادة منظمة التحرير من دون أن تفكّر في ما تعنيه هذه البنود من تعهّدات. فقد كان همّها الأول والأخير إنقاذ نفسها من الاندثار.
ومرّت الأعوام من دون أن تأتي هذه الاتفاقات بالنتائج المرجوّة، فازداد الاستيطان تجذّراً وتكثيفاً، وظهر على الملأ فشل الرهان على طريق أوسلو الذي سارت به القيادة الوطنية. في هذه الأثناء، كان التيار الإسلامي قد ضرب جذوراً سياسية بوصفه بديلاً للتيار الوطني الذي باءت سياساته بالفشل. ثمّ جاءت الانتفاضة الثانية المسلّحة، والتي وإن كانت قد أوجعت المجتمع الإسرائيلي بعض الشيء، فقد كبّدت الفلسطينيين في نهاية المطاف خسائر بشرية أكبر بكثير، وفوق كلّ ذلك قد كبّدت الفلسطينيين خسائر سياسية كبرى تمثّلت بفقدان التعاطف الدولي مع قضيّتهم.
ثمّ نفّذ شارون خطّة الانسحاب من غزّة ليفصلها نهائيّاً عن الضفّة، فجاء الانقلاب الحماسي على السلطة في القطاع ليتوّج هذه الخطّة وليقطع التواصل الفلسطيني. وهكذا أضحى القطاع في مثابة «بنغلاديش» فلسطينية انفصلت تماماً عن «باكستان» الضفة الغربية. ومنذ ذلك الوقت، لم يعد أيّ من الشطرين يستطيع التحدّث باسم فلسطين الواحدة ذات القضية الواحدة. فلا حماس تستطيع التحدث باسم الضفة ولا سلطة رام الله تستطيع التحدث باسم القطاع، فقد أضحيا كيانين منفصلين بأجندات سياسية مختلفة.
وأخيراً، انتفض العرب في ربيعهم، ولم يكن لفلسطين ذكر في هذا «الربيع». فقد انشغلوا بقضاياهم التي لا تقلّ إلحاحاً عن قضايا «الأمّة»، أو «قضية العرب الأولى» وما شابه ذلك من شعارات لا رصيد لها في الواقع. ثمّ انكشف العرب والعالم بأسره على النكبة السورية الكبرى، والتي همّشت «قضية العرب الأولى» بكلّ المقاييس.
وهكذا، وعلى خلفية الصراعات الأهلية في العالم العربي، سقطت «قضيّة العرب الأولى» من حساباتهم. كما أنّ الصراعات الملحّة الأخرى دفعت العالم إلى صبّ اهتمامه عليها بدل التعامل مع قضية فلسطين. وإذا نظرنا إلى هذا الانشقاق الفلسطيني السياسي والجغرافي بين سلطة رام الله وسلطة غزة، فلا شكّ في أنّه يصبّ لمصلحة السياسة الإسرائيلية التي كرّست هذا الشرخ الفلسطيني مستعينة بغباء القيادات الفلسطينية، وهو ما يدفع العالم إلى عدم النظر جدّياً إلى قضيّتهم.
خلاصة القول، إنّ القيادات الفلسطينية بتيّاراتها وتجاذباتها الإقليمية والدولية كافة، والتي لم تفلح في قراءة العالم من حولها، هي جزء لا يتجزّأ من هذه النكبة الفلسطينية المتواصلة.
* كاتب فلسطيني