ما تزال الأنساق الثقافية التي تَكَوَّنت في أعماق الزمن الغابر خلال مراحل التاريخ الموغلة في القِدَم: تهيمن على الإنسان في كل مكان وتتحكم بالعقل البشري من اليابان شرقًا إلى أمريكا غربًا ومن استراليا جنوبًا إلى النرويج والسويد شمالًا. إنها الحتمية الثقافية التي لا فكاك منها فهي تَملك ولا تُملَك وتهيمِن ولا يُهيمَن عليها …..
لقد مضت قرون على ظهور التفكير العلمي الموضوعي. ورغم تعميم التعليم في كل العالم، فإن الأنساق الثقافية المتوارثة ما تزال تهيمن على العقل البشري. ورغم الاختلافات في قوة الهيمنة بين نسق وآخر، إلا أنه لا يوجد أية أمة على وجه الأرض تمكنت من التحرر مما تتوارثه عن أسلافها. فكل جيل لاحق يرث بشكل تلقائي نسقه الثقافي عن كل جيل سابق، إنه تَوارُثٌ تلقائي حتميٌّ لا خيار للأجيال فيه ….
يتعلم البوذي أو الهندوسي أو السيخي أو الدرزي أو اليزيدي أو الكنفوشيوسي أو الكاثوليكي في أرقى الجامعات العالمية، وينال أرفع الشهادات الأكاديمية في علوم الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء أو الرياضيات أو غيرها من علوم العصر. وتتكوَّن للدارس أنماطٌ ذهنية يمارس بواسطتها نشاطه العلمي أو مهاراته المهنية ولكنه، خارج نطاق التخصص، يبقى محكومًا بالنسق الثقافي الذي تُبَرمج به في طفولته ….
البعض لا يجد حرجًا في أن ينقسم بين بنية ذهنية قاعدية تأسيسية كَوََنها نسقٌ ثقافي نشأ عليه، وبين أنماط ذهنية غير ثابتة يمارس بواسطتها عمله المهني.
لكن البعض تكون تصوراته التي تعود إلى النسق الثقافي شديدة القوة والحضور والهيمنة بشكل يمنعه من التلاؤم مع التصورات العلمية التي يواجهها أثناء دراسته، فيقع في حَرَج الملاءمة، فتنتابه الشكوك والمخاوف والقلق، ولكن البنية الذهنية القاعدية التي تكوّنت في الطفولة تكون غالبًا مهيمنة فيلجأ للتأويل ويُقْنِع نفسه بأن ما ورثه هو الحق المطلق وأن كل ما يتعارض معه إما أنه غير صحيح وإما أنه قابل للتأويل.
إنها حيلة العقل في التكيف مع الموقف الخرج للإبقاء على أساسه العميق واستبعاد كل ما يتعارض معه …..