مقابل عقيدة الرئيس أوباما المرتكزة على عدم التدخل في الشرق الأوسط والتعالي على الأصدقاء، برز مبدأ الملك سلمان في تحمل المسؤولية الذاتية بالدفاع عن المصالح السعودية والعربية.
بين واشنطن والرياض تاريخ متشابك من العلاقات الحيوية والشائكة في آن معا، ومما لا شك فيه أن اتفاق “كوينسي” بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (14 فبراير 1945) كان الناظم لهذه العلاقة الجدلية والتبادلية بين أمن الطاقة العالمي والأمن السعودي والإقليمي وكانت مدته 60 سنة، وجرى تجديده لستة عقود أخرى في العام 2005.
من ريتشارد نيكسون إلى جورج بوش الأب، كانت واشنطن تنظر إلى الرياض بوصفها شريكا أساسيا في الإقليم، وحليفا إبان الحرب الباردة. وبالرغم من بعض النكسات كان هناك تناغم في الإجمال وكانت واشنطن مستفيدة من هذه الصلة لتدعيم هيمنتها على الشرق الأوسط منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي.
منذ أوائل هذا القرن شهدت العلاقات الثنائية عدة هزات مرتبطة بتفاعلات اعتداء الحادي عشر من سبتمبر وحرب العراق، لكن الترابط المزمن والحسابات بين الطرفين سمح بإعادة إطلاق العلاقات حتى وصول باراك أوباما الذي كانت عنده نظرات مسبقة وحذرة إزاء السعودية، إلى جانب الرهان على ترتيب شراكة مع إيران بهدف إعادة تركيب المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط.
بالطبع، لا ترتبط سياسة الولايات المتحدة الأميركية بشخص الرئيس لوحده، فلعبة المؤسسات وجماعات اللوبي معقدة في كيفية صنع القرار في واشنطن. إلا أن باراك أوباما الأكاديمي المعتد باختلافه عن نظرائه في الطبقة السياسية والرئيس الملون، الأول في التاريخ الأميركي، أراد أن يترك بصماته بأسلوب جديد. بدا أوباما للوهلة الأولى واعدا، لكنه أغدق في الوعود من دون تنفيذ، ونال نوبل للسلام من دون صنع السلام، وأراد تطبيق نظرياته الأيديولوجية حول العالم العربي وعوالم الإسلام على حساب الأصدقاء المقربين، داعيا إياهم إلى التحول من دون الاعتراف بمسؤوليات بلاده حيال ما آلت إليه أوضاع العالم العربي، أو أسباب صعود التيارات الجهادية والمتطرفة منذ الجهاد الأفغاني وسقوط الشاه في إيران.
بعد فشله في ملف السلام الإسرائيلي الفلسطيني ونسيان خطاب القاهرة الشهير، قارب أوباما الحرب ضد الإرهاب والخضّات العربية منذ 2011 بأساليب متباينة. اعتبر أن قيادته من الخلف في ليبيا كانت كارثية، بينما اعتبر استنكافه في سبتمبر 2013 عن عقاب نظام دمشق، قرارا تاريخيا. استثمر أوباما مليا في الضعف العربي المتفاقم منذ سقوط بغداد. وعندما أرادت المملكة العربية السعودية التصدي للانكشاف الاستراتيجي العربي، وجدت أوباما يلهث وراء إيران ولا يهتم بخطورة مشروعها الإقليمي على حساب الدول العربية، وهنا حصل التباعد بين واشنطن والرياض.
باراك أوباما هو أول رئيس أميركي يزور المملكة العربية السعودية أربع مرات ولم يكن تدفق الود هو السبب، بل كثافة العلاقات الثنائية وظروف أخرى، لكن أوباما، في زيارته الأخيرة يوم 20 أبريل، كان أول رئيس أميركي لم يستقبله على أرض المطار العاهل السعودي الذي اكتفى بإيفاد أمير منطقة الرياض، بينما كان الملك سلمان بن عبدالعزيز قد استقبل في المطار وفي نفس اليوم قادة دول الخليج الذين توافدوا لحضور القمة الخليجية -الأميركية.
تشير الفوارق في المسائل البروتوكولية إلى المنحى الذي وصلت إليه العلاقات الثنائية، مقارنة بالاستقبال الحار الذي لقيه أوباما عند وصوله للتعزية بالملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز في يناير 2015، أو حين تجاوز أوباما العرف المتّبع في سبتمبر 2015، حيث رحب بالملك سلمان أمام بوابة الجناح الغربي للبيت الأبيض وليس داخل مكتبه.
لا ينقص سجل أوباما في علاقته مع القادة السعوديين اللياقات منذ تلك الانحناءة أمام الملك عبدالله في قمة العشرين في لندن في أبريل 2009، أو لفتة الخروج لاستقبال الملك سلمان. وعلى ما يبدو لم تعد هذه المظاهر مقنعة لدى صناع القرار في الرياض، ولا تعكس حقيقة مواقف سيد البيت الأبيض. ولذا يؤشر الاستقبال السعودي البارد على تداعي الثقة وما أسماه الأمير تركي الفيصل “نهاية الأيام الخوالي” خاصة بعد إبراز انتقادات الرئيس الأميركي للسياسة السعودية في مقالة “آتلانتيك الأخيرة، في خروج عن المألوف بين شركاء استراتيجيين وأصدقاء تاريخيين تقليديين.
من قمة كامب ديفيد الأميركية – الخليجية في مايو 2015 التي لم تبدد الشكوك، إلى الاتفاق النووي مع إيران وتداعياته والتباين حول العديد من الملفات الإقليمية، تراجعت العلاقات الأميركية- السعودية بشكل ملحوظ، وأخذت الرياض تركز على تنويع شراكاتها الخارجية من فرنسا (وبريطانيا وألمانيا) إلى روسيا والصين والهند.
على الصعيد الإقليمي، أطلقت الرياض “عاصفة الحزم” في اليمن لمنع استخدام اليمن ضد الأمن السعودي والخليجي، واستمرت على موقفها من حرب أسعار النفط التي بدأت في خريف العام 2014. وبرزت محاولات ترتيب البيت العربي والإسلامي انطلاقا من منظومة مجلس التعاون الخليجي وذلك عبر تدعيم العلاقة الاستراتيجية مع مصر والتنسيق مع تركيا، وبلورة تحالف إسلامي ضد الإرهاب مؤلف من أربعين دولة، بالإضافة إلى الموقف الصلب على الساحة السورية والتصدي لإيران وأدواتها الإقليمية.
فاجأت هذه النقلة السعودية النوعية الإدارة الأميركية، وأبرز ذلك فشل استراتيجية أوباما الذي لم يكسب، عمليا، إيران ولم يجعلها تتخلى عن نهجها الهجومي في الإقليم، مما دفع الرياض إلى تطوير استراتيجية التصدي، مما زاد في تفاقم الموقف في بركان الشرق الأوسط الكبير.
وبما أن المملكة العربية السعودية تبقى قوة إقليمية وحليفا تقليديا وقطبا اقتصاديا في المنظور الأميركي، ونظرا لأهمية استقرارها ودورها في مكافحة الإرهاب وضمان الاستقرار الإقليمي، أتت زيارة أوباما من أجل السعي إلى إصلاح ما لحق بالعلاقات من أضرار ومحاولة فتح صفحة جديدة تقوم على المصالح والحاجة المتبادلة.
بعد زيارة أوباما، وبعد انعقاد القمة الخليجية – الأميركية، لا يبدو أن النتائج الملموسة كبيرة ولا يظهر أن تطمينات أوباما أقنعت القيادة السعودية والقادة الخليجيين. ومن الناحية العملية، لا يمكن للقوة العظمى الوحيدة أن تتخلى عن أصدقائها أو عن دور الحكم النزيه على الأقل في منطقة مضطربة.
مقابل عقيدة الرئيس أوباما المرتكزة على عدم التدخل في الشرق الأوسط والتعالي على الأصدقاء، برز مبدأ الملك سلمان في تحمّل المسؤولية الذاتية بالدفاع عن المصالح السعودية والعربية. وتنتظر مراجعة العلاقة الأميركية – السعودية وصول إدارة جديدة في واشنطن. وفي هذه الأثناء “التاريخ لا يعرف أي مكان لاستراحة”.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب