إذا تطايرت شرارات الحرب على غزة إلى لبنان، فهل سيصبح الصراع الإقليمي أمرًا واقعًا لا مفر منه؟ مع أن جميع الأطراف البارزة المنخرطة في النزاع تقريبًا لا ترغب في حدوث تصعيد والانزلاق إلى مواجهة إقليمية أوسع، فهي تتبنّى مواقف ستضمن عمليًا حدوث ذلك، إذا بقيت ثابتة عليها.
نقلت بعض المصادر أن الحكومة الإسرائيلية تحشد قواتها استعدادًا لتوغّل برّي في غزة، ما من شأنه أن يغيّر الطبيعة الكامنة للنزاع. فبعد أن أمرت إسرائيل سكان شمال غزة بالمغادرة نحو جنوب القطاع، يبدو أنها تطبّق استراتيجية تعمد بموجبها القوات الإسرائيلية تدريجيًا إلى حشر حماس في زاويةٍ من غزة، كما فعلت إلى حدٍّ بعيد مع منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت الغربية في العام 1982، فيما تطلق مسارًا تفاوضيًا لإجلاء قياداتها. ويكاد يكون من المؤكّد أن هذا التطور سيدفع حزب الله إلى فتح جبهة شمال إسرائيل والجولان، كما أشار وزير الخارجية الإيراني في بيروت يوم الخميس.
إذًا، بأي طريقة يمكن أن يمتدّ هذا النزاع إلى سائر الشرق الأوسط؟ فلنتخيّل أحد السيناريوات حيث تواجه حماس تهديدًا وجوديًا لا رجعة عنه في غزة. فتُقدِم إيران وحزب الله على إشعال جبهتَي لبنان والجولان لتشتيت إسرائيل. وقد يدعوان أيضًا الميليشيات العراقية إلى الانتشار في سورية أو لبنان دعمًا لحزب الله، ولا سيما أن هذه الميليشيات كانت تتحضّر تحديدًا للتدخل في لحظة كهذه. وقد تدفع هذه الخطوات إسرائيل إلى قصفها في سورية، وربما حتى في داخل العراق. لكن الأمر الأهم للإيرانيين هو وجود القوات الأميركية على طول الحدود السورية العراقية، واحتمال تدخّلها لمنع الميليشيات العراقية أو حتى الإيرانيين من تعزيز حزب الله عسكريًا. وما يزعج طهران بالقدر نفسه هو أن الولايات المتحدة أرسلت مجموعتَين من حاملات الطائرات إلى شرق البحر المتوسط، في رسالة ردع من إدارة بايدن مفادها أنها لن تسمح لما يُعرف بمحور المقاومة بتوسيع دائرة الحرب على إسرائيل. فكما صرّح المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي: “إننا نوجّه رسالة قوية وواضحة، وهي أن الولايات المتحدة مستعدّة لاتخاذ إجراءات إذا فكرت أي جهة معادية لإسرائيل بمحاولة التصعيد أو توسيع نطاق هذه الحرب”.
إذًا، تبدو كل المكوّنات جاهزة لإشعال انفجار كبير في الشرق الأوسط: فالحكومة الإسرائيلية تنوي إنهاء وجود حركة حماس في غزة؛ ومحور المقاومة سيتدخّل على نحو شبه مؤكّد من الجبهتَين اللبنانية والسورية للحفاظ على قوة الردع وحماية حماس التي تشكّل رصيدًا سياسيًا وعسكريًا مهمًّا لإيران في المنطقة؛ والولايات المتحدة تبدو عازمة على الدفاع عن إسرائيل مهما كان الثمن، ما يعني أن إيران قد تُضطر إلى الانخراط بشكل مباشر في الصراع للحفاظ على نفوذها الإقليمي.
لكن، إذا كان الخيار في يد إيران، فستفضّل على الأرجح عدم جرّ حزب الله إلى حرب ضدّ إسرائيل والولايات المتحدة، لأن هذه الخطوة من شأنها أن تُضعف بشكل كبير الوكيل الإقليمي الأساسي لطهران. كذلك، لا يأتي أحد أبدًا على ذكر المشهد اللبناني الداخلي، لكن إذا تعرّض لبنان للدمار، وهذا ما سيحدث بالتأكيد، فقد تهتزّ بشدة هيمنة حزب الله على الساحة الوطنية. وقد تؤدّي هذه النتيجة، مقرونةً بهزيمة حماس في غزة، إلى وضع يخسر فيه محور المقاومة الكثير من المكاسب التي حقّقها خلال العقد المنصرم، حتى لو لم يُهزَم بشكل حاسم.
ولا يبدو أن إسرائيل متحمّسة بدورها لتوسيع رقعة الحرب الدائرة وفتح الجبهة الشمالية، ناهيك عن خوض معركة مع إيران. فهي تصبّ تركيزها راهنًا على القضاء على حماس. لكن، إذا شعر الإسرائيليون أنهم سيتلقّون دعمًا عسكريًا من الأميركيين، فمن غير المستبعد أن يبذلوا كل ما في وسعهم ويحاولون التصدّي لمشاكلهم مع حزب الله وإيران، شرط أن يتجاوز الحزب الخطوط الحمر المقبولة على الجبهة الشمالية، من خلال قصف المدن الإسرائيلية وأهداف استراتيجية. لكن المخاطر التي ينطوي عليها هذا الخيار كثيرة. فقد تتعرّض إسرائيل إلى دمار كبير وخسائر بشرية، ومن المرجّح جدًّا، وهذه النقطة هي الأهم، ألّا يتمكن أيٌّ من الجانبَين من تحقيق نصر واضح.
وماذا عن الولايات المتحدة؟ يبدو أنها مُصمِّمة بدورها على تفادي اندلاع حرب إقليمية. فإدارة بايدن لا تختلف عن إدارتَي أوباما وترامب برغبتها في تجنّب خوض مغامرات عسكرية جديدة في الشرق الأوسط، ولا سيما أنها على أعتاب عامٍ انتخابي. لكن مؤازرة إسرائيل خطوةٌ تحظى بالشعبية في أوساط الأميركيين، ولا سيما حين يعتبرون أنها تواجه اليوم تهديدًا وجوديًا. لذا، في حال أقدم الإيرانيون ووكلاؤهم إلى توسيع رقعة الحرب على إسرائيل لإضفاء المصداقية على المواقف التي أسروا أنفسهم فيها، فستضطر الولايات المتحدة عندئذٍ إلى شنّ هجمات عليهم لإضفاء المصداقية على الموقف الذي أسرت نفسها فيه.
فهل من مسارٍ ديبلوماسي للخروج من هذه المعمعة، ومن القادر على توفيره؟ يصعب القول. فمختلف الأفرقاء في هذا النزاع مُكبَّلين بمواقفهم المتصلّبة التي أقرنوها بمبرّرات أخلاقية، بحيث يبدو أن هامش تقديم التنازلات أصبح ضيّقًا للغاية. على الرغم من ذلك، في وسع دولتَين عربيتَين الاضطلاع بأدوار مهمة على الأرجح، وهما: قطر، إذ يمكنها التوسّط في نقل الرسائل بين الأميركيين (والإسرائيليين، من خلالهم) والإيرانيين؛ ومصر، التي ستؤدّي دورًا بارزًا في أي مجهود يهدف إلى رسم معالم نظام سياسي جديد لغزة يحظى بقبول إسرائيل.
لكن في الوقت الراهن، لا يزال كل هذا الحديث ربما سابقًا لأوانه. فثمة مسارات بديلة يمكن أن يسلكها الأفرقاء لتفادي التورّط الكامل في الحرب. فباستطاعة حزب الله وحلفاء إيران الآخرين حصر عملياتهم بالمنطقة الحدودية الواسعة، لتقييد القوات الإسرائيلية إنما من دون تجاوز عتبة الخطوط الحمر من خلال قصف أهداف استراتيجية ومدن إسرائيلية. أو، في حال عمدت إسرائيل إلى التوغّل في غزة بشكل تدريجي، وبالتوازي مع إجراء مفاوضات، فالتفاعل بين المفاوضات والمكاسب العسكرية التدريجية قد يزيد على إيران صعوبة تقويض هذه العملية من خلال توجيهها لحزب الله بدخول الحرب. أو أيضًا، بإمكان حزب الله أن ينتظر ويشاهد أداء حماس في غزة، وإذا رأى أنها قادرة على الصمود، فقد يقرّر خفض سقف الردّ على إسرائيل، وتفادي السيناريو الأسوأ.
يبقى هذا النقاش نظريًا إلى حين دخول القوات الإسرائيلية إلى غزة، ذلك أن كل طرف يترقّب ما سيفعله الطرف الآخر. ربما ما نشهده الآن هو الهدوء الذي يسبق العاصفة. فلنأمل إذًا التوصّل إلى طريقة لكبح جماح هذه العاصفة قبل أن تجرف في طريقها المنطقة ومن فيها.