كشف الوفاء لسمير، اللبناني – السوري- الفلسطيني، الشخصيّة الإستثنائية التي امتلكتها جيزيل خوري. رفضت جيزيل الإستسلام للظلم الذي تعرّضت له طوال حياتها. كانت تقول لي في لحظات قليلة شاهدتها فيها حزينة: “كتب عليّ أن لا أرى الفرح يوما”، علما أن فرحها كان عظيماً في مرحلة معينة. كان ذلك عندما تزوجت من سمير الذي جعلها من عاشقات بيروت بعدما رافقته في رحلة كتاب “تاريخ بيروت” الذي يروي فيه قصة المدينة.
طوال ثمانية عشر عاماً أبقت جيزيل سمير قصير، الأخ والصديق والكاتب المتميّز، بيننا. كانت جيزيل شخصين في امرأة بعدما ندرت حياتها من أجل الرجل الذي احبته والذي انتظرت عشر سنوات كي تتمكن من الزواج منه صيف العام 2004. كان ذلك قبل أقلّ من سنة من بدء إطفاء أضواء المدينة في 14 شباط (فبراير) 2005 يوم إغتيال رفيق الحريري.
كان تفجير سمير قصير لحظة ركوبه سيارته بعد أقلّ من أربعة أشهر على إغتيال رفيق الحريري فاتحة لسلسلة من الإغتيالات نفّذها من كانوا وراء التخلّص من الرجل الذي أعاد الحياة إلى بيروت. من خلال اغتيال سمير قصير ثمّ إغتيال جبران تويني، اكتشفت جيزيل أن بيروت المدينة الصاخبة ذات التنوع مستهدفة. كان التركيز على جريدة “النهار” مقصودا إن عبر سمير أو عبر جبران الذي دفع بدوره ثمن جرأته اللامتناهية وثمن تمكنه من ربط “النهار” بالمرجعيات العربيّة والدولية مجددا.
كانت “النهار” ولا تزال رمزاً من رموز المدينة وقدرتها على الصمود. كان لا بدّ من مقاومة ثقافة الموت. هذا ما فعلته جيزيل، التي قاومت السرطان في السنوات الثلاث الأخيرة، بعدما عرفت كيف تطوّر نفسها عبر الحوارات التي كانت تديرها في هذه المحطة العربية أو اللبنانيّة أو تلك. تكمن الأهمّية الإعلامية لجيزيل خوري في تلك القدرة على تطوير نفسها والإنتقال من الأفق اللبناني الضيق إلى الأفق العربي الأوسع والأفق الإقليمي عموماً.
أدركت جيزيل منذ البداية معنى الجريمة التي استهدفت سمير وأبعادها اللبنانيّة والعربيّة. كان ردها واضحاً كلّ الوضوح . كتبته في مقال نشرته صحيفة “نداء الوطن” تحت عنوان “قصتي مع سمير”. قالت جيزيل في ذلك المقال الذي تناولت فيه ردّ فعلها على إغتيال سمير: “كان القرار أن أعيش وأن أذكّر القاتل أن إعدام الجسد لا يلغي الروح. انشأتُ “مؤسسة سمير قصير” كي تكون شهادته من أجل الحياة ودعوة لتجديد ثقافة الحريات”.
استطاعت المؤسسة جمع الصِحافيين والمثقفين في المشرق العربي وفي مغربه وفي الخليج للقيام بمشاريع ثقافية منها “مهرجان ربيع بيروت” المجاني لدعم الفن والثقافة. تشكّل المؤسسة اليوم مرجعاً عالمياً في موضوع رصد الإنتهاكات التي يتعرض لها الإعلاميون. نظمت ورش عمل لصحافيين شباب في التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال الاجتماعي ودربت مراسلي الحرب لحماية أنفسهم في مناطق الاشتباكات مع أهم المؤسسات الدولية.
كان مهرجان “ربيع بيروت” فعل وفاء لسمير قصير وتأكيدا لأنّه لم يمت. كان ردّاً على أولئك الذين ما زالوا يعملون من أجل القضاء على بيروت. يعود السبب الأساسي لنجاح “مؤسسة سمير قصير” إلى النفس الكريمة التي كانت تمتلكها جيزيل خوري وإلى شبكة العلاقات الواسعة التي بنتها محليا وعربيّا ودوليا، خصوصا أوروبيّا.
قاومت جيزيل بكلّ ما أوتيت من عزم. قاومت حتّى الرمق الأخير. هزمها السرطان ولم يهزمها الذين قتلوا سمير قصير. ركزت على برنامجها الحواري الذي انتقلت به إلى “سكاي نيوز” العربيّة وكان أحد أهم البرامج في العالم العربي كلّه. مكنتها الحياة في ابوظبي من الشعور بالراحة، وهي راحة وجدتها أيضا في ولديها رنا ومروان. ما لفتني في لقاء أخير مع جيزيل رؤيتها إشارات إلى أن بيروت تنهض مجدداُ كطير الفينيق. رأت عودة، وإن خجولة، للحياة الثقافيّة والفنّية. هل كان تفاولها في محله أم أنّ “حزب الله” ينوي توريط لبنان في حرب مدمّرة جديدة بعدما قام بكل ما يستطيع القيام به من أجل القضاء على ثقافة الحياة في البلد وفي بيروت تحديداً؟.
كان اللقاء الأخير مع جيزيل في عمان في حزيران (يونيو) الماضي في مناسبة الإستقبال الذي أقيم في مناسبة زواج وليّ العهد الأردني الأمير الحسين بن عبدالله. حرصت على المجيء إلى العاصمة الأردنيّة على الرغم من أنّها كانت منهكة. رفضت الإستسلام ساعدها في ذلك ابنتها رنا التي رافقتها في زيارة عمّان. أظهرت شجاعة لا متناهية لا يمتلكها غير أصحاب النفوس الكريمة من الذين يعرفون معنى الصداقة والوفاء وحبّ الحياة وتحدي السرطان. كانت صديقة عزيزة بالفعل. كانت وفيّة بالفعل. كانت امرأة اسنثنائية بالفعل. كانت لبنانيّة صلبة بالفعل..”.