سواءً كان إسمها “الخلافة”، أو الدولة الإسلامية، أو “سنّيستان” أو “جهادستان”، فإن دولة جديدة تولد في الشرق الأدنى، في مربّع تحدّه “الموصل” و”بغداد” من الشرق، و”حلب” و”دمشق” من الغرب. وداخل هذه المنطقة، تُمحى الحدود الدولية، ويتنقل السكّان مرغمين أو برضاهم، وتُقام سلطة جديدة.
يضيف مراسل جريدة “لوموند”، مارك اياد، في مقال نُشِر اليوم الأربعاء، أن تنظيم “الدولة الإسلامية” يحمل مشروعاً أكبر بكثير من مجرّد جماعة سياسية-عسكرية إرهابية أو جهادية. إن الدولة الإٍسلامية التي ولدت من تقاطع السلفية المقاتلة مع البعث العراقي تمثّل مشروعاً لا يضاهيه أي مشروع آخر، وليست له سابقة: مشروع إنشاء بلد بديل للسنّة العرب في العراق وسوريا يكون خاضعاً لأحكام الإسلام في تأويلها الأكثر تشدّداً. وعلى نقيض “القاعدة”، التي تمثّل تنظيماً سرّياً نخبوياً وغير مرتبط بأرض محددة (تنظيم “رُحّل”)، فإن تنظيم “أبو بكر البغدادي” يريد أن يكون “دولة” قبل أي شيء آخر.
“دولة” تتمتّع بكل رموز السيادة: أرض ، ووزارات، وإدارة، وشرطة، وجيش، ونظام قضائي، وخدمات اجتماعية وصحّية، وقيود احوال شخصية، وعِملة، ووسائط إعلام، وحتى مراكز استجمام.
“باقية”
ويتلخّص هذا المشروع في شعار “باقية”، ومعه السبابة المرفوعة نحو السماء للدلالة على وحدانية الله، وهو الشعار الذي أطلقه “أبو بكر البغدادي” في ٢٩ حزيران/يونيو ٢٠١٤.
وتعبّر هياكل الحكم المُقامة في “الدول الإسلامية” عن الأصول “السلفية” و”البعثية” المزدوجة للتنظيم. فمن “السلفية” استعار التنظيم كل إحالات “الطهر” الأسطوري للإسلام الأصلي: الخلافة، بصفتها مرجعاً مجيداً لا جدال حوله في التاريخ الإسلامي؛ و”الشريعة” بصفتها القانون الجنائي الوحيد؛ والإعدام بالسيف، كما في عهد النبي.
فشل “الربيع العربي”
إذا كانت “الخلافة” تبدو مغرية إلى هذا الحدّ اليوم، فلأنها ولدت بعد إخفاق “حركات الربيع العربي” التي انتهى معظمها في حمّام دم. وجاءت الإطاحة بحكم “الإخوان المسلمين” في مصر في العام ٢٠١٣ لتقنع أنصار الإسلاميين بأن “الديمقراطية” ليست واحداً من الخيارات المتاحة للوصول إلى السلطة.
إن هذه الرموز التي تستقي جذورها من إسلام أصلي مُتوَهَّم تجد تمثّلاتها في دعاية بارعة، تستخدم بتقنية غربية ممتازة صور أبطال أسطوريين يضحّون بأنفسهم من أجل الأمة. على غرار أفلام الفيديو المخصصة لـ”الشهداء”، أي الإنتحاريين الذين يتم استخدامهم كقنابل بشرية موجّهة.
وتمارس تلك الأفلام، الساذجة ظاهرياً ولكن المتطورة جداً في الواقع، تأثيرها على أكثر من ٢٠ ألف فرد، بينهم مسلمون أصليون وبعضهم اعتنق الإسلام حديثاً، هاجروا من بلدان الغرب أو من بلدان العالم العربي الأخرى، نحو “أرض الإسلام” الجديدة ليعيشوا فيها إيمانهم الديني أو التزامهم السياسي أو غريزة العنف في نفسيّتهم.
مع ذلك- وكما يلاحظ “موسى بورقبة” في مجلة “أورينت ٢١” التي تصدر على الإنترنيت- فإن السيطرة على أرض بهذا الإتساع تضم ثلث العراق ونصف سوريا- أي ما يعادل مساحة بريطانيا- تتطلّب كل خبرات ومهارات الضبّاط القدامى .في نظام صدام حسين
فالواقع أن الدقة في التفاصيل التي تبلغ درجة الهوس التي تتّسم بها الإحصاءات التي تنشرها “الدولة الإسلامية” حول الهجمات التي تقوم بها في كل سنة، تعبّر عن الإنضباط الحديدي لنظام البعث العراقي.
كذلك، تم تقسيم خلافة “الدولة الإسلامية” إلى مقاطعات على رأس كل منها حاكم. ويمارس الحاكم وظائف القائد العسكري ولكنه يكون محاطاً بجهاز استخبارات محلّي يرفع تقاريره مباشرةً إلى القيادات العليا الموجودة في “الموصل“: وتلك طريقة بعثية نموذجية للمراقبة، تعود أصولها إلى جهاز “ستازي“ الألماني الشرقي أكثر مما تعود إلى النبي محمد.
وإذا كانت “خلافة“ أبو بكر البغدادي تصادف مثل هذا النجاح رغم الحرب التي يشنها عليها، منذ سنة، إئتلاف دولي ومعه جيشا العراق وسوريا، فذلك لا يعود إلى شعارات الماضي المجيد للمسلمين في عهود الأمويين والعباسيين، بقدر ما يستند إلى “التهميش“ السياسي لسُنّة العراق– بعد الغزو الأميركي في ٢٠٠٣– وفي سوريا– حيث يمثّل السُنّة أكثرية مقموعة منذ استيلاء عائلة الأسد، التي تنتمي إلى طائفة أقلية، على السلطة في العام ١٩٧٠.
ولكن ذلك هو ، كذلك، السبب في إخفاق “الدولة الإسلامية“ في كل محاولاتها للخروج من أراضي السنّة، وخصوصاً في مدينة “كوباني“ الكردية، الأمر الذي دفعها لإعادة تركيز مجهودها الحربي باتجاه “الرمادي“ (في العراق) و“تدمر“ (في سوريا) وهي أراضي سنّية بامتياز.
وطالما لم يتم العثور على حل سياسي للمشكلة السنّية، فستظل “الدولة الإسلامية“ قائمة ومزدهرة.