١- يكثر الحديث في الأوساط الدينية عن أن العلمانية تنبني على الشأن المادي فقط، فهل هي مهتمة فحسب بذلك، ولا علاقة لها بالشأن المعنوي؟
سؤال متداول بكثرة، والإجابة عليه بـ”نعم” تعكس في العادة رأي المنتمين للتيار الديني. غير أنني أعتقد أن الإجابة هي “لا” بالتأكيد.
فالعلمانية، بموازاة الأمر المادي، تسير بالإنسان نحو الشأن المعنوي لا محالة. لماذا؟ لأن الإنسان عبارة عن جوانب مختلفة، من ضمنها المادي والمعنوي، ولابد من إشباع الاثنين. فالحرية التي تصنعها العلمانية للإنسان وتهيؤها له، وخاصة العلمانية الليبرالية، تسير به إلى مختلف آفاق الإشباع، ومنها الأفق المعنوي.
ولعل تطور العلوم النفسية والإنسانية، وإبداعات الثقافة والفكر والفلسفة، وكتابة القصة والرواية، وبروز الفن والغناء والموسيقي والشعر والتمثيل والرسم والفلكلور، وظهور رياضات روحية جديدة، هي نماذج لتطور الأفق المعنوي.
فالإنسان قادر على صناعة محتوى معنويا من دون الأديان، بل هو قادر على ذلك من دون الإيمان بإله، لا أدريا كان هذا الإنسان أو ملحدا.
٢-حين يزعم البعض أن دور العلمانية في الحياة هو في تراجع عام في الوقت الحاضر، عن أي تراجع يتحدث هؤلاء؟ وهل هناك ما يسند ذلك؟
إنّ على أصحاب هذا الزعم، إن كانوا واقعيين، وعقلانيين، وعلميين، أن يلجأوا إلى المؤسسات التخصصية الاستطلاعية لكي يثبتوا مزاعمهم. بل إنّ المسؤولية الأخلاقية تحتم عليهم إعلان نتائج الاستطلاعات والمؤشرات، والتي تؤكد عكس ذلك، أي تؤكد تراجع دور الدين والتديّن على مختلف الصعد في المجتمعات العربية والمسلمة. وإذا كانت هناك نتائج مغايرة ومؤشرات مختلفة فليطرحوها. فمهما ارتفع الصوت غير الصادق، سيظل غير صادق إذا لم يركن إلى ما يمكن أن يثبت صحة مزاعمه.
وتؤكد الاستطلاعات المحلية والعالمية والمؤشرات التخصصية بوضوح ورطة الخطاب الديني لجعل مشروعه الديني/السياسي/الاجتماعي واقعيا. كما تؤكد وضوح ورطته في التأسيس لإجابات تُناسب أسئلة الحياة، وإنتاج حلول لمشاكلها.
فهناك فشل صريح لتجربة الإسلام السياسي والإسلام الشمولي للهيمنة على الشعوب. وفشل صريح للمشروع الديني في إنتاج منظومة قيمية أخلاقية تتناسب وتطورات الحياة الحقوقية وحياة الحريات الحديثة. وفشل صريح للخطاب الديني في وضع بدائل تنموية/ حضارية في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفي مختلف الشؤون الطبيعية والإنسانية.
إن هذا الفشل – إن صح التعبير – سببه أن هذا الدور الذي يسعى الخطاب الديني أن يقوده، منوط بالعقل العلمي الحر المستقل عن الوصايا الدينية التاريخية المطلقة، أي العقل الذي يأبى الركون إلى نهج وعقل وثقافة السلف الصالح وإلى وصاياهم. فهؤلاء السلف، بمختلف صور إرثهم، عاشوا حياتهم التاريخية المتواءمة مع طبيعة ظروفهم الثقافية والاجتماعية، ومن الطبيعي جدا ألا يستطيعوا أن يكونوا نماذج مطلقة للحياة الراهنة. وإنْ كانت هناك حاجة لبعض هذا الإرث فلابد أن يخضع لفلترة العقلانية الحديثة لا أن يكون إرثا مقبولا بشكل كامل ونهائي.
النتيجة هي أن الأديان التاريخية لا تستطيع أن تتعايش مع الحداثة، بسبب تصادم نهجها مع نهج الحياة الحديثة القائم على العقلانية الحديثة، وعلى الأخلاق الكونية الحديثة، وعلى احترام حقوق الإنسان الحديث. لذا هي دائمة التعارض مع قيم الحياة الراهنة ومع حقوقها وأخلاقها وقوانينها.
٣-إن العديد من المنتمين للتيار الديني يزعمون أن العلمانية، وخاصة الليبرالية منها، شوّهت الأسرة بل وحطمتها، وأن آخر محطات التحطيم جاء عن طريق تشريع “المثلية”.
وهنا لابد من الإشارة إلى نقطتين.
النقطة الأولى هي أن مشروع تكوّن الأُسْرَة، سواء بشكلها القديم أو الحديث، لم يكن في يوم من الأيام جزءا من مشروع ديني أو مرتبطا بالنصوص الدينية. فأحد نتائج التطور النوعي ثم الاجتماعي الذي عاشه الإنسان أدّى إلى تشكّل الأسرة وتكوّنها. أي هي، بعبارة أخرى، جاءت نتيجة لتطوّر حياة الإنسان ضمن نطاق الداروينية البيولوجية ثم الاجتماعية إن صح التعبير. كما أن وجود شيء إسمه الأُسْرَة ليس جزءا مما يُطلق عليه بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وإنما عوامل الطبيعة هي التي ساهمت في تغيّر حياة الإنسان حتى تشكيله الأسرة. فهي حالة تراتبية فردية ثم اجتماعية. ومن ينسب تشكّلها إلى العقائد ونصوصها، فهو غير صادق في حديثه، ولم يطّلع على تاريخ التطوّر الطبيعي للإنسان. فمن أبرز عوامل تشكّل الأسرة وتطوّرها هو اكتشاف الإنسان للبيئة الزراعية وسعيه للاستقرار فيها.
أما النقطة الثانية فتتعلق بدور التشريعات الدينية في تشكيل أُسَر غير مستقرة، على الصعيد النفسي والاجتماعي، خاصة التشريعات التي تمنح الرجل أو الذكر حق الهيمنة على مختلف شؤون الحياة، من هيمنة فردية جنسية فتجعل الرجل يتمتع بفوقية غير طبيعية وغير عادلة في مقابل إمرأة لا حول لها إلا الخضوع بشكل غير إنساني لقانون الرجل الجنسي، إلى هيمنة اجتماعية واقتصادية أبوية يكون فيها الرجل هو السلطان على معظم مسائل الحياة، ثم هيمنة نفسية تخضع فيها المرأة والبنت لكل صور الظلم الذكوري.
وعلى الرغم من أن الإنسان عاش السلبيات والإيجابيات في كل حضارة مرّت عليه، وأن البعض يرى في تشريع المثلية سقطة للحداثة أو للحضارة الليبرالية العلمانية الراهنة، إلا أن البعض الآخر يرى في هذا التشريع دفاعا عن حقوق فئة من الناس تم قمعها عبر التاريخ.
وحتى ما يسمى بالحضارة الإسلامية، فلديها سلبياتها الكثيرة النابعة من الإرث الديني، وعلى رأس عناوينها “العبودية والتمييز ضد الإنسان”. وقد يتساءل المرء: ما هي الحلول المطروحة في الأديان، وبالذات في الدين الإسلامي وفي الفقه الإسلامي، إزاء هذه الظاهرة الحقوقية، ظاهرة المثلية؟ الجواب هو إما لا شيء، أو سجن المثليين والمطالبة بإعدامهم، أو الضغط عليهم لإجبارهم على الهجرة إلى بلاد أخرى.
إن القول بأن المثلية تمثّل هدما للحياة الأسرية هو نوع من الإفراط. فالأسرة، في اعتقادي، عندها من المقوّمات التطورية التي تجعلها قادرة على التكيّف مع مختلف صور التغير السلوكي والنفسي والاجتماعي، والمثلية هي أحد صور هذا التغيير في الوقت الراهن. فبدلا من الحكم المسبق على مفردة “الهدم”، لنراقب مفردة “التكيّف”، لأنها الأنسب اجتماعيا، في حين أن المفردة الأولى – أي الهدم – تحمل في طياتها نوايا أيديولوجية مبيتة لمهاجمة الحريات الليبرالية قبل التعرّف على نتائج التغيير الاجتماعي التي ستحدثها المثلية.
٤-هل قال مفكرو العلمانية الليبرالية التحررية في يوم من الأيام بأن العلمانية هي النموذج الوحيد الصحيح للعيش في الحياة؟ لقد أكدوا ولا يزالون يؤكدون بأنها أحد تلك النماذج. إلا أن هناك من المفكرين المدافعين عمّا يسمى بالأفكار الأيديولوجية المطلقة، دينية كانت أو علمانية غير ليبرالية، هُم من يتبنون مثل هذه الأفكار الإقصائية ويطلقون مثل هذه التصريحات الواحدية. فالحياة، حسب سلسلة طويلة من الفلاسفة والمفكرين العلمانيين، عبارة عن نماذج فكرية وفلسفية وعلمية تتنافس فيما بينها، ويجب أن يُفتح المجال لجميعها للمنافسة شريطة عدم إقصاء الآخر.
أمّا الأمر الذي لا يمكن إنكاره في إطار دفاع العلمانية عن الحريات وعن التنوّع الفكري والفلسفي، أن الأفراد المنتمين للأقليات الدينية في الشرق لجأوا إلى الدول العلمانية الليبرالية فرارا من الاستبداد الشرقي وغير الشرقي، الديني وغير الديني، وهم يعيشون بأمان ثقافي وفكري وفي ظل ضمانات حياتية لم يوفرها إلّا الفكر العلماني الليبرالي بعيدا عن تسلط ودكتاتورية واستبداد المجتمعات المحافظة/المتديّنة. وكما يقول أحد الأصدقاء: لولا تحوّل المجتمعات الغربية، وغيرها، نحو العلمانية الليبرالية لرأينا صدّا في استقبال المهاجرين من الشرق.
إن الأخلاق النابعة عن الفكر العلماني لا تنبني فقط على تحقيق “المنفعة”، مع ضرورة التوضيح بأن النفعية لها نتائج إيجابية عديدة على مختلف الصعد، لكنها ليست إلا أحد نتاجات الأخلاق العلمانية. فهناك مدارس أخلاقية عدة أخرى أفرزتها العلمانية. منها أخلاق الفضيلة، والأخلاق القيمية، وأخلاق حقوق الإنسان، والاخلاق التي يتبناها الفيلسوف إيمانويل كانت، أي أخلاق “الضرورة”. فحينما تمنع إمرأة سويدية علمانية وملحدة إقلاع طائرة في مطار بلدها لأن على متنها مهاجر أفريقي تم ترحيله لأسباب سياسية، فأيّ نوع من الأخلاق يمكن أن يوصف سلوك هذه المرأة؟ وعندما ترتدي مجموعة من النساء الأوروبيات الملحدات الحجاب تضامنا مع المحجبات اللائي تعرضن لضغوط لإجبارهن على نزع الحجاب، فأي نوع من الأخلاق يمكن أن يوصف هذا الإجراء؟
في مقابل ذلك، يحتوي المنهج الديني المتعلق بالأخلاق اليوم على أمثلة عديدة من صور التعدي على حقوق الإنسان، وعلى حقوق المرأة، وعلى حقوق غير المسلم، وعلى ما يسمى بالعبيد، وعلى الأطفال، وكذلك على الحيوانات والبيئة. فتحت أي عنوان أخلاقي يمكن وصف تلك التعدّيات؟
إن الحربين العالميتين في القرن الماضي، رغم أنهما لم تكونا من ضمن الحروب الدينية المباشرة، لكنهما من ناحية الأسباب والدوافع الواقعية، سعتا لتحميل البشرية الأفكار المطلقة بقيادة دكتاتوريات حتى وإن جاءت عن طريق الصندوق الانتخابي، وهدفتا لفرض أيديولوجيا شبه دينية على العالم هي أيديولوجيا الهيمنة والتسلط والإقصاء، والتي لا علاقة لها بالأطر التحررية التي كانت ولا تزال تدعو لها العلمانية الليبرالية. والمفارقة أن الغرب العلماني التحرري الليبرالي هو الذي واجه أيديولوجيا الهيمنة النازية والفاشية واستطاع انقاذ العالم منها.
واليوم يخوض نفس الغرب التحرري حربا مع دكتاتور علماني هو بوتين، لإنقاذ أوروبا من الفكر التسلطي العبثي المدعوم من قبل جانب كبير جدا من المسلمين، والمؤيد من أطراف مرجعية دينية، سنية وشيعية.