لا حاجة إلى كثير من البحث والتدقيق واللفّ والدوران للتأكّد من أنّ حاجة “حزب الله” إلى نجيب ميقاتي وحكومته أكبر بكثير من حاجته إلى شخص مثل جبران باسيل. في النهاية، لا خيارات كثيرة أمام جبران، مهما طال الزمن وتغيّرت الأحوال، غير البقاء مرتمياً في حضن الحزب الذي لولاه لَما وصل ميشال عون إلى قصر بعبدا في ذلك اليوم المشؤوم، يوم 31 تشرين الأول من عام 2016.
لا مكان آخر يذهب إليه جبران الممسوك من الحزب، وذلك مهما حاول التذاكي وإظهار أنّ لديه خيارات أخرى مثل الخيار القطري ذي الإطار الواضح. يتمثّل هذا الإطار في السعي إلى إقناع صهر ميشال عون بمرشّح آخر لرئاسة الجمهورية، قد يكون قائد الجيش العماد جوزف عون، مع وعد بالسعي إلى مساعدته في التخلّص من العقوبات الأميركيّة المفروضة عليه بموجب قانون ماغنتسكي المتعلّق بالفساد. لدى قطر خبرة طويلة في التعاطي مع واشنطن ولديها معرفة في كيفية التحرّك في كواليس العاصمة الأميركية والدوائر ذات القدرة على التأثير فيها. أمّا على صعيد لبنان ككلّ، فالاهتمام القطري يتجاوز جبران باسيل إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. الأبعد هنا الغاز الموجود في البحر المتوسط، في المياه اللبنانيّة تحديداً، وطموح قطر إلى إيجاد موطئ قدم في استخراج هذا الغاز يوماً.
تبدو حسابات ميشال عون وجبران باسيل في غير محلّها. ظهر ذلك بوضوح بعدما نجح نجيب ميقاتي في عقد جلسة لمجلس الوزراء فيما كان رئيس الجمهوريّة السابق وصهره يحذّران من اعتداء على حقوق المسيحيين وعلى الدستور. مرّة أخرى نجح رئيس الوزراء في تسجيل نقطة على عون وباسيل بعدما كان رفض تشكيل حكومة تستجيب لمتطلّباتهما. كان الثنائي الرئاسي السابق يطمح إلى لعب دور في المرحلة الانتقاليّة التي يمرّ فيها لبنان. فشل في ابتزاز نجيب ميقاتي الذي يعرف تماماً مَن يحكم لبنان ويتقن لعبة المناورة وكلّ ما له علاقة بها محلّياً وإقليمياً ودوليّاً.
“عهد الحزب”… الذي لم ينتهِ
لم يدرك ميشال عون وجبران باسيل، منذ البداية، أن لا مكان في هذه المرحلة الانتقالية التي يسودها فراغ رئاسي إلّا لدور يمارسه “حزب الله” العامل بهدوء على تغيير المعادلة في داخل مجلس النواب عن طريق الطعونات. أتى الحزب أخيراً بنائبَين مواليَين له من الشمال. ليس مستبعداً أن يأتي باثنين آخرين من منطقة أخرى لتعزيز الأكثرية التي يمتلكها في المجلس، وهي أكثريّة تسمح له بفرض رئيس الجمهورية الذي يريد ومنع وصول أيّ مرشّح يمتلك حدّاً أدنى من المبادئ السيادية في الوقت ذاته.
فات الثنائي الرئاسي السابق أنّه صار خارج بعبدا. لا يستطيع تصديق ذلك. انتهى “العهد القويّ” ولم ينتهِ “عهد حزب الله” الذي صنع “العهد القويّ” ورعاه ومنحه الغطاء المطلوب كي يمارس لعبة الفساد من أوسع الأبواب، أكان ذلك من خلال الكهرباء أو السدود الفاشلة أو غير هذين الملفّين.
لعلّ أهمّ ما فات ميشال عون وجبران باسيل أنّ لبنان واقع تحت الاحتلال الإيراني، وأنّ دور المسيحيين في لبنان تقلّص إلى حدّ كبير وصولاً إلى تحوّل “حزب الله” إلى الطرف الذي يقرّر من هو رئيس الجمهوريّة. أكثر من ذلك، بات رئيس الجمهوريّة، على سبيل المثال وليس الحصر، ملتزماً منع التحقيق الدولي في جريمة بحجم جريمة تفجير مرفأ بيروت.
لم يعد من وجود لحقوق المسيحيين في لبنان. طارت هذه الحقوق لحظة توقيع وثيقة مار مخايل بين حسن نصرالله وميشال عون في السادس من شباط من عام 2006. لم يعد من مهمّة لدى المسيحيين، بفضل رئيس الجمهورية السابق وصهره، غير توفير غطاء لسلاح “حزب الله”، أي للاحتلال الإيراني.
هذا ليس وقت البكاء وصرير الأسنان بعدما امتهن ميشال عون وصهره إذلال المسيحيين وتهجيرهم بدءاً باختيار أسوئهم ليكونوا نوّاباً أو وزراء.
يظلّ أسوأ من ذلك كلّه الجهل بما يدور في المنطقة، ومنه ما يدور داخل إيران نفسها وما يعانيه النظام السوري من حال انهيار. لم يدرك ميشال عون وجبران باسيل، على سبيل المثال، أنّ حزب الطاشناق الأرمني مرتبط بـ”حزب الله”، وأنّ نوّابه بمنزلة مُعارين لـ”التيّار الوطني الحر”. أعار الطاشناق، الذي صارت قيادته في طهران وليس في مكان آخر، نوّابه إلى جبران باسيل من أجل تضخيم الكتلة النيابيّة العونيّة وجعلها في مستوى كتلة نواب “القوات اللبنانيّة” لا أكثر.
“الجهل” المسيحي
يظلّ الجهل المسيحي، الذي يعبّر عنه وجود نواب عونيين، من بين الأسباب التي أدّت إلى ضياع لبنان الذي قد يكون أفضل ما يمكن أن يفعله أبناؤه في هذه المرحلة الابتعاد عن المزايدات. هناك واقع داخلي لا يمكن تجاوزه في غياب أيّ تغيير لموازين القوى إقليمياً. هذا ما يعرفه نجيب ميقاتي قبل غيره. اسم هذا الواقع سلاح “حزب الله” الذي يعني، بكلّ صراحة، وجود الاحتلال الإيراني الذي يمنع انتخاب رئيس للجمهوريّة يليق بلبنان الذي عرفناه.
لبنان بلا رئيس للجمهوريّة تفرضه إيران أفضل من لبنان بوجود مثل هذا الرئيس. يؤكّد ذلك ما ارتكبه ميشال عون وجبران باسيل في السنوات الستّ الماضية. صدق الثنائي الرئاسي في مكان واحد هو ذهاب لبنان بمسيحيّيه ومسلميه إلى جهنّم. كان ميشال عون في هذا المجال، بالفعل، صاحب الوعد الصادق. تبدو وعوده أفضل من وعود حسن نصرالله الذي تعهّد تحرير القدس واكتفى بترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل.
أساس ميديا