احتفل لبنان امس الاحد بالذكرى الـ77 للاستقلال. قبل ذلك احتفل في مطلع أيلول – سبتمبر الماضي بذكرى مرور مئة سنة على اعلان دولة لبنان الكبير، أي لبنان بحدوده الحالية. في السنة 2020، يشبه لبنان كلّ شيء باستثناء لبنان بعدما صار في النادي الإيراني.
من يحتاج الى دليل على ذلك، يستطيع الاستماع الى الخطاب الذي القاه رئيس الجمهورية ميشال عون في مناسبة ذكرى الاستقلال. لا يصلح الخطاب لان يكون اكثر موضوع انشاء لطالب في نهاية دراسته الابتدائية، اللهمّ الّا اذا استثنينا الإشارة الواضحة التي ارتدت شكل انتقاد للدول العربية التي وقعت أخيرا اتفاقات مع إسرائيل. هذه الدول هي دولة الامارات العربيّة المتّحدة ومملكة البحرين والسودان. ما دخل لبنان في هذا الموضوع، اللهمّ الّا اذا كان ذلك مطلوبا منه إيرانيا عبر “حزب الله”. منذ متى يصدر عن لبنان كلام من هذا النوع يحمّل دولا عربية معيّنة خسارة الجولان والقدس؟ ليس سرّا من وراء احتلال الجولان وليس سرّا لماذا راحت القدس.
جاء خطاب رئيس الجمهورية ليؤكّد ان لبنان لم يعد لبنان. كان تركيزه على الفساد. لا إشارة من بعيد او قريب الى السلاح المذهبي غير الشرعي لـ”حزب الله”. ان تكون في لبنان ميليشيا مذهبية توجّه سلاحها الى صدور اللبنانيين الآخرين وتفرض عليهم ما تريد امر اكثر من طبيعي لرئيس الجمهورية. اكثر من ذلك، مسموح لهذه الميليشيا، التي ليست سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، التدخل في كلّ مكان في المنطقة من دون حسيب او رقيب ومن دون ان يكون هناك رأي للبنان في ذلك. عندما تتدخل ميليشيا “حزب الله” في الحرب التي يخوضها النظام الاقلّوي في دمشق على شعبه باكثريته الساحقة، لا يعود جائزا السؤال هل لبنان مستقلّ ام لا؟
استطاعت ايران ان تجعل الحدود بين لبنان وسوريا مهزلة. هذا ما يتجاهله رئيس الجمهورية الذي يريد مكافحة الفساد. من يريد بالفعل مكافحة الفساد ومنظومة الفساد لا يوقف التعيينات القضائية الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى. من يريد بالفعل مكافحة الفساد يفتح ملف الكهرباء التي يتولاها “التيّار الوطني الحر” منذ احد عشر عاما. لماذا الكهرباء المقطوعة منذ كلّ هذه السنوات؟ لماذا كلّ هذا الهدر، بمليارات الدولارات، في ملفّ الكهرباء في عهد وزراء “التيّار الوطني الحرّ” الذي يقف على رأسه صهر رئيس الجمهورية جبران باسيل؟ الأكيد ان الإجابة عن مثل هذا النوع من الأسئلة من الأمور غير المستحبّة، مثلما من غير المستحبّ الاعتراف بان المسألة ليست مسألة تحقيق جنائي في مصرف لبنان فقط.
يتجاهل رئيس الجمهورية انّ عهده هو “عهد حزب الله” وأنّ المعادلة المعمول بها في هذا العهد هي معادلة السلاح يحمي الفساد. من يغضّ الطرف عن سلاح “حزب الله” يغض الطرف عن الفساد الحقيقي لا اكثر ولا اقلّ. الثابت انّ مصرف لبنان يتحمّل مسؤولية ما في الكارثة التي حلت بلبنان، كذلك هناك مسؤولية تقع على أصحاب المصارف، ولكن من سرق أموال اللبنانيين في المصارف ومن اتبع سياسة تصبّ في ضرب النظام المصرفي اللبناني؟ من يتحمّل المسؤولية الأكبر في ذلك كلّه هو “عهد حزب الله” الذي لا يؤمن باي من الثوابت التي قام عليها لبنان منذ ما قبل الاستقلال.
يكشف موضوع الانشاء الذي القاه رئيس الجمهورية في مناسبة الذكرى الـ77 لاستقلال حجم الكارثة اللبنانية. لا إشارة على الاطلاق الى شهداء “ثورة الأرز” المعروف تماما من وراء اغتيالهم، لا إشارة الى رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما ولا الى سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وانطوان غانم وبيار امين الجميل ووسام عيد ووسام الحسن وفرنسوا الحاج… وصولا الى محمّد شطح. سقطت أسماء كلّ هؤلاء سهوا مع أسماء الشهداء الاحياء الثلاثة مروان حماده ومي شدياق والياس المرّ. هناك بكلّ بساطة عهد يعيش في عالم آخر.
لا يستطيع عهد مثل هذا العهد الاعتراف بانّ لبنان انتهى على يده وليس على يد احد آخر. لبنان الذي انتهى هو لبنان العربي المنفتح على كلّ دول المنطقة، في مقدّمها دول الخليج. في النهاية ما هو لبنان الذي استطاع ان يكون في مرحلة معيّنة المكان المفضّل عربيا؟ لبنان كان جامعة ومدرسة ومستشفى ومصرفا وفندقا ومطعما وملهى ليليا وشاطئا وجبلا ومكتبة وصحافة ومهرجانات سياحية. كان مكانا يحلو العيش فيه.
ماذل بقي من لبنان هذا؟ لم يبق شيء. ليس في السلطة للأسف الشديد من يدرك خطورة احتجاز المصارف أموال المودعين. ليس في السلطة من يدرك ماذا يعني مرور ثلاثة اشهر ونصف شهر، وربّما اكثر ولا احد يخبر اللبنانيين ما أسباب تفجير مرفأ بيروت. ليس في السلطة من يدرك المعنى الحقيقي لتفجير الميناء وابعاده ولماذا هذا الإصرار الإيراني على الغاء دور بيروت في المنطقة وتحويل المدينة الى مجرّد مدينة إيرانية على البحر المتوسط.
يدفع اللبنانيون ثمن الوضع الذي صار فيه “حزب الله” يقرّر من هو رئيس الجمهورية المسيحي. سيدفع لبنان ثمنا غاليا لتغطية سلاح “حزب الله” رسميا ولتلك التسوية الرئاسية ولاقرار القانون الذي اجريت على أساسه انتخابات العام 2018. الآن بدأنا نفهم لماذا كان ممنوعا على لبنان الاستفادة من مؤتمر “سيدر” الذي انعقد في باريس في نيسان – ابريل 2018 قبل شهر من الانتخابات. ما يجري حاليا من وضع عقبات في وجه تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري ليس سوى تتمّة لتفشيل “سيدر” لا اكثر.
ثمّة خط بياني سار عليه العهد منذ 31 تشرين الاوّل – أكتوبر 2016. انّه خط واضح يقوم على تدمير ما بقي من مؤسسات الدولة اللبنانية واستكمال القطيعة مع العرب.
لا وجود لاسرار في لبنان الذي دخل النادي الإيراني من بابه الواسع. في النهاية، لم يكن ممكنا مباشرة لبنان مفاوضات في شأن ترسيم الحدود مع إسرائيل لولا ضوء اخضر إيراني. لم يكن ذلك ممكنا لولا ان ايران كانت تريد تقديم أوراق اعتمادها مسبقا الى جو بايدن وذلك قبل ان يفوز في الاتخابات الرئاسية. هل تكون إدارة بايدن عند حسن ظنّ “الجمهورية الإسلامية” الساعية الى صفقة مع “الشيطان الأكبر”، ام يتبيّن انّ حساباتها لم تكن في مكانها؟ ذلك هو السؤال الذي سيفرض نفسه في المرحلة المقبلة التي ستكشف هل صار لبنان مستعمرة إيرانية الى غير رجعة…