من الناحية النظرية، لا غبار على مضمون الخطاب الذي القاه رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمد عبّاس (أبو مازن) في جلسة خاصة لمجلس الامن التابع للأمم المتحدة. من حقّ “أبو مازن” الاعتراض على الدور الاميركي، خصوصا بعد اعتراف الرئيس دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وتجاهله الأسس التي يمكن ان تقوم عليها ايّ تسوية عادلة تعيد للشعب الفلسطيني الحدّ الأدنى من حقوقه المشروعة. في مقدّم هذه الحقوق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقية. اطلق ترامب رصاصة الرحمة على خيار الدولتين. لم يترك ايّ مجال لايّ تسوية من ايّ نوع تستجيب لقرارات الشرعية الدولية التي في اساسها مبدأ الأرض في مقابل السلام. ولكن هل يبرّر ذلك تدمير الجسور مع واشنطن، مهما كانت هذه الجسور هشّة؟
سجّل رئيس السلطة الفلسطينية موقفا وحقّق نجاحا كبيرا من الناحية النظرية طبعا. أعاد الى الذاكرة مبادرة السلام العربية التي اقرّتها قمة بيروت في العام 2002 والتي تضمنت كل الأسس التي يمكن ان تؤمن استقرارا على الصعيد الاقليمي. لم تترك تلك المبادرة، التي كان خلفها الملك عبدالله بن عبد العزيز، الذي توفّى مطلع العام 2015، مكانا لتفسيرات وتأويلات. اجابت المبادرة، الى حد كبير، عن كلّ الأسئلة التي كان يمكن لإسرائيل ان تطرحها، بما في ذلك ذلك السؤال المرتبط بـ”حق العودة”. في الواقع، تركت المبادرة العربية مجالا واسعا لاخذ ورد في شأن حق العودة الذي يعرف كلّ فلسطيني يمتلك حدّا ادنى من المنطق ان لا مجال لتطبيقه الّا من زاوية رمزية لا اكثر.
عمل بشّار الأسد وقتذاك، بدفع إيراني، كلّ ما يستطيع من اجل نسف المبادرة العربية من داخل عن طريق لغم اسمه “حقّ العودة”. نجح جزئيا في ذلك، لكن المبادرة التي اقرّتها القمّة في نهاية المطاف كان يمكن ان تشكّل أساسا لتسوية تبيّن لاحقا ان إسرائيل غير مهتمّة بها.
هل في الإمكان احياء مبادرة السلام العربية في السنة 2018، ام ان المسألة كلّها مرتبطة بتسجيل موقف؟ حسنا، نجح “ابو مازن” في تسجيل موقف ولكن ماذا سيفعل في اليوم التالي؟ الجواب بكلّ بساطة ان الاجتماعات ستستمرّ بين وزراء إسرائيليين ووزراء فلسطينيين بمن فيهم رئيس الوزراء رامي الحمدالله وذلك لتسهيل الحياة في الضفّة الغربية. امّا طرح موضوع “المؤتمر الدولي للسلام” ورفض ان تكون الولايات المتحدة وسيطا بين إسرائيل والفلسطينيين، فهذا اشبه بمن يريد معاقبة نفسه لا اكثر. ليس هناك طرف دولي على استعداد للحلول مكان الولايات المتحدة او ان يتجرّأ على ذلك. الاهمّ من ذلك كلّه، انّه لا يوجد طرف دولي، بما في ذلك روسيا، يستطيع هذه الايّام ان يسمح لنفسه بالدخول في مواجهة مع إسرائيل، على الرغم من كل المتاعب الداخلية لرئيس وزرائها بنيامين نتانياهو الذي يواجه تهم الفساد التي يمكن ان تطيحه.
نظريا، سجّل رئيس السلطة الوطنية نقطة. ذكّر العالم بما يمكن ان تقوم عليه تسوية عادلة. تكمن مشكلته الأساسية ان موازين القوى القائمة في المنطقة والعالم لا تسمح له بالعودة الى كلام قديم في عالم كلّ ما فيه جديد… بما في ذلك طريقة تعاطي إدارة ترامب مع الصراع العربي- الإسرائيلي. الاخطر من ذلك كلّه ان المنطقة تغيّرت بدورها. في ظلّ الخطر الايراني الذي زاد حجمه مع تسليم الولايات المتّحدة العراق على صحن من فضّة الى ايران، لم تعد القضيّة الفلسطينية قضية العرب الاولى. هذه هي الحقيقة. الحقيقة المرّة انّ الهم العربي موجود حاليا في مكان آخر في وقت لا يتحدّث الآن عن فلسطين سوى أولئك الذين يتاجرون بها وبالفلسطينيين. لا يتحدّث عن فلسطين وعن “تحرير القدس” سوى أولئك الذين يشاركون في الحرب المستمرّة على الشعب السوري. هؤلاء الذين يقولون ان البوصلة هي فلسطين، انّما لم يرتووا كفاية بعد من دمّ الشعب السوري. يريدون “تحرير فلسطين والقدس” بالكلام في حين يرمون الحمم على اهل الغوطة التي هي على مرمى حجر من دمشق. محزن ان لا يكون الجانب الفلسطيني لا يعي انّ عليه التفكير جدّيا في بدائل غير العودة الى فتح الملفات القديمة التي لا وجود فيها لما يقدّم او يؤخّر.
كانت كلّ كلمة صدرت عن “أبو مازن” في مجلس الامن في محلّها لو كان لدى رئيس السلطة الوطنية أي بديل من العودة الى التنسيق الأمني مع إسرائيل. كيف سيعود “او مازن” الى رام الله؟ هل يستطيع العودة من دون تنسيق امني مع إسرائيل ومع الاحتلال؟...
لا مفرّ من الاعتراف بانّ الواقع مؤلم. لكنّ التعاطي مع هذا الواقع يحتاج الى ما هو اكثر من الدعوة الى “مؤتمر دولي للسلام” و”انشاء آلية متعددة الأطراف” لحلّ القضية الفلسطينية. الهدف من هذه الآلية القول للولايات المتحدة ان وساطتها لم تعد مقبولة. نعم، الولايات المتحدة لم تعد وسيطا نزيها. انّها منحازة كلّيا الى إسرائيل والى ما ينادي به اليمين الإسرائيلي. لكنّ السؤال هل من جهة دولية او إقليمية على استعداد للقول لواشنطن انّ هناك من يريد “مؤتمرا دوليا” يفرض تسوية على إسرائيل الطامحة الى تكريس احتلالها لجزء من الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
الجواب، بكل صراحة، انّه لا يوجد من يريد المشاركة في “مؤتمر دولي”. الكلام عن مثل هذا المؤتمر يظلّ كلاما جميلا لا ترجمة له على ارض الواقع. غدا او بعد غد، سيعود “أبو مازن” ومن معه الى رام الله. هذا واقع لا مفرّ منه ولا يمكن التحايل عليه. انّه واقع فرضته موازين القوى. لكنّ هذا الواقع يعني أيضا انّ المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية صارت قضيّة منسية. الحاضر الدائم، اقلّه في المدى المنظور، هو التنسيق الأمني مع إسرائيل في الضفّة الغربية والكارثة الانسانية التي مسرحها غزّة. هذه الكارثة، التي تسببت بها “حماس” والذين وعدوها بفكّ الحصار الإسرائيلي مثل الرئيس التركي رجب طيّب اردوغان، لا يريد رئيس السلطة الوطنية السماع بها لا من قريب او بعيد.
هل من بصيص امل يمكن الرهان عليه في ظلّ هذا الظلام حيث سلطة وطنية فلسطينية تعتقد انّ في استطاعتها معاقبة الإدارة الاميركية بدل إبقاء الجسور ممدودة معها؟ بصيص الامل هو الشعب الفلسطيني الذي صمد كل هذه السنوات وحافظ على هويته الوطنية. لا يمكن لهذا الشعب سوى ان يستعيد حقوقه في يوم من الايّام وان في حدود معيّنة.
ليس طبيعيا ان يبقى الشعب الفلسطيني خارج الخريطة الجغرافية للمنطقة فيما هو على خريطتها السياسية. لكنّ استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه تتطلب اوّل ما تتطلّب القدرة على التعاطي مع الواقع من دون عقد، بما في ذلك الاستفادة من أخطاء ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني الذي استطاع وضع فلسطين على الخريطة السياسية للشرق الاوسط. من بين أخطاء “ابو عمّار” انّه لم يعرف يوما كيف تعمل واشنطن من داخل، أي من يصنع السياسة الاميركية، وما هي إسرائيل بنقاط القوّة ونقاط الضعف فيها…