يصادف العام الجاري مرور قرن على عودة المهاتما غاندي إلى بلاده من جنوب إفريقيا. والمعروف أنّ شاعر الهند الأكبر”طاغور” هو الذي أطلق على “موهنداس كرمشاند غاندي” لقب “المهاتما” الذي يعني باللغة السنسكريتية “الروح العظيمة”، فيما سماه آخرون “بابو” أي الأب باللغة الغوجاراتية” كناية عن أنه بمثابة “أبو الأمة الهندية”. والمعروف أيضا أنّ غاندي غادر الهند إلى بريطانيا في عام 1882 في سن الثالثة عشرة لدراسة القانون، وهناك عاش كإنسان جاد وملتزم، وسعى إلى الحقيقة والأخلاق والفضيلة من خلال قراءة الإنجيل وكتب كثيرة في الفلسفات والعقائد. وبمجرد نيله الإجازة الجامعية لممارسة المحاماة عاد إلى الهند في عام 1890 ليتعرض لمشاكل شخصية معطوفة على صلف المسئولين البريطانيين، وهو ما جعله يعمل في مهنة كتابة العرائض لبعض الوقت قبل أن تأتيه فرصة الانتقال إلى جنوب إفريقيا للعمل مع مؤسسة هندية في “ناتال”.
في عام 1893 وصل إلى جنوب إفريقيا وهو في ريعان الشباب ليعيش ويعمل وسط الجالية الهندية الكبيرة التي كانت تعيش في إقليم “ناتال” وتعمل في صناعة التبغ والسكر مع جماعات أخرى مثل التجار العرب المسلمين والمستخدمين الهندوس وبعض المسيحيين الملوّنين، لكنه إصطدم منذ اليوم الأول بما سيبقى طويلا جرحا غائرا بداخله، بل بما حدد معالم مسيرته في الدفاع عن حقوق كل العمال المستضعفين في تلك البلاد.
فقد كان يلبس بدلة أوروبية أنيقة ويجلس في الدرجة الأولى داخل أحد القطارات دون أن يدري أنّ القوانين العنصرية تحرم عليه ذلك. وقام أحد الركاب البيض بالتبليغ عنه فجاءت الشرطة وانتزعته من مقعده وطردته بالقوة من عربة الدرجة الأولى بالرغم من قيامه بدفع قيمة تذكرة تلك الدرجة.
هذه الحادثة وما نجم عنها من شعور بالإذلال والمهانة جعلته يقرر النضال من أجل انتزاع حقوق مواطنيه الهنود والأقليات الأخرى في المساواة والعدالة. ولعل ما أجّج هذه النزعة لديه أنه تعرض للإعتداء الجسدي من قبل مجموعة من البيض المعارضين لتواجد الهنود في جنوب أفريقيا بُعيد وصوله إلى ميناء “ديربان” من زيارة سريعة إلى مسقط رأسه في ولاية “غوجرات” الهندية، ناهيك عن أنه بمرور الوقت صار أكثر إطلاعا على الحقائق المفزعة حول ما تقوم به حكومة جنوب أفريقيا من تمييز عنصري واضطهاد عرقي، وما تعتزم القيام به مثل إصدار قانون بحرمان الهنود من الإقتراع العام.
نصحه بعض الهنود باللجوء إلى الكفاح المسلح كخيار وحيد لانتزاع حقوقهم، لكنه رفض ذلك رفضا تاما لأنه كان متأثرا بأفكار الكاتب الأمريكي “ديفيد تورو” صاحب فكرة العصيان المدني من جهة، ولأنه من جهة أخرى كان مؤمنا بأن أي نضال مسلح ضد القوة العسكرية الجبارة للإمبراطورية البريطانية عملية مكلفة وغير مجدية.
وهكذا كان البديل هو توعية هنود جنوب أفريقيا أولا من خلال الصحافة. فأسس صحيفة “الرأي الهندي” الإسبوعية في عام 1903 باللغات الانجليزية والهندية والغوجراتية والتاميلية لتكون لسان حال الجالية الهندية. أما خطوته التالية فجاءت في سبتمبر 1906 حينما عقد في جوهانسبرغ إجتماعا جماهيريا للجالية الهندية من أجل تدشين حملة المقاومة السلمية التي حملت إسم “ساتيا غراها”(القوة الحقيقية)، والتي كان من تبعاتها الزج بغاندي في المعتقل عدة مرات خلال الفترة 1908 ـ 1913 .
مثــّل عام 1910 منعطفا هاما في حياة غاندي حيث أسس فيه ما عــُرف بـ “مزرعة تولستوي” متأثرا في ذلك بكتاب تولستوي “الخلاص في أنفسكم”، وذلك فوق أرض بمساحة أربعة آلاف متر مربع أهداها له أحد المقربين منه وهو “هيرمان كالينباخ”، واستطاع أن يقنع الكثيرين من أتباعه بأفكار وايديولوجيات “ليو تولستوي”، والإكتفاء بحياة بسيطة ومتواضعة، والاقلاع عن تناول الكحول والتبغ واللحوم، وإقامة علاقات صداقة مع الأفراد والجماعات من مختلف الديانات والأعراق، وغير ذلك من معتقداته البراهمانية (ممارسة يومية تهدف إلى جعل الإنسان يحرّر ذاته ويتحكم بكل أهوائه وحواسه بواسطة الزهد والتنسك والصيام والطهارة والصلاة والخشوع والتزام الصمت يوم الاثنين من كل أسبوع). وبمرور الوقت ذاع صيتُ غاندي في جنوب أفريقيا والهند كمحام قدير وشخصية ذات مصداقية وهبتْ نفسها للدفاع عن المستضعفين، خصوصا بعدما رفع العديد من القضايا ضد أشكال التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. ولعل هذا هو أحد أسباب الاستقبال الحاشد الذي لقيه عندما وصل إلى بومباي مع زوجته “كاستوربا” في يناير 1915 قادما من جنوب أفريقيا ليقود حركة المقاومة السلمية ضد المستعمر البريطاني في وطنه الأم، وهو محمل بتجربة سياسية ثرية وإطلاع واسع على الديانات والعقائد وأساليب العمل العام.
أما الأنشطة والحملات التي أطلقها في الهند مذاك وحتى اغتياله بثلاث رصات على يد أحد الهندوس المتطرفين (ناثورم جوتسى) في 30 يناير 1948 فقد كانت كثيرة وذات تأثير في تحقيق طموحاته وطموحات شعبه. إذ أطلق في عام 1917 حركة “ساتيا غراها تشامباران” لانتزاع حقوق المزارعين الضعفاء وتخفيف الضرائب عنهم، وفي عام 1919 احتج على المجزرة التي قامت بها القوات البريطانية في “جليانوالا باغ” بكشمير بحق المسلمين من خلال التخلي عن وسام “قيصر الهند” الذي منحه له البريطانيون، وفي عام 1921 أطلق حركة “ساتيا غراها” شاملة، وكان شعارها المغزل الخشبي المعروف باسم “تشارخا” بهدف إعلاء مفهوم الإعتماد على الذات ومقاطعة بضائع ومصانع المستعمر، وفي عام 1923 زج به في “سجن يروادا” بمدينة بونه القريبة من بومباي، فانتهز الفرصة ليكتب جزءا من كتابه “سيرتي الذاتية.. تجاربي مع الحقيقة”، وفي عام 1930 أطلق مسيرته الاحتجاجية الأشهر والتي قطع فيها مسافة 400 كلم خلال 24 يوما سيرا على الأقدام إلى “داندي” لإستخراج الملح من البحر، متحديا قانون حصر إستخراج الملح بالبريطانيين، وفي عام 1932 قاد حركة هاريجان التي استمرت لمدة عشرة أشهر، هدد خلالها بالصيام حتى الموت، بهدف الانتصار لطائفة المنبوذين والقضاء على فكرة نبذهم في الانتخابات، وفي عام 1942 أطلق الرجل آخر حركاته المعروفة باسم “ساتياغراها” وكانت تستهدف المستعمر بعنوان “إرحلوا عن الهند”، وفي عام 1943 دخل في إضراب عن الطعام لمدة 21 يوما أثناء إيداعه “سجن قصر آغاخان” في مدينة بونه.
*كاتب وباحث أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh