نستكمل، اليوم، ما بدأناه، عن لحظة مصر الأفغانية، ونحاول التفكير في تجليات لحظة غطّت عقد السبعينيات، وتجاوزته بعقود، وتحضر في الواقع حتى الآن. ولا أجد أبلغ دلالة، في سياق كهذا، من تحويل نموذجين كلاهما وثيق الصلة بالتلفزيون، هما الشيخ متولي الشعراوي، والدكتور مصطفى محمود، إلى وسيلة إيضاح، لإلقاء ضوء على لحظة فارقة في تاريخ العالم العربي، والعالم. ففي كل كلام عنها ما يقود إليهما، وفي كل كلام عنهما ما يقود إليها. وهي مناسبة للكلام عن علاقة الأسلمة بالتلفزيون، أيضاً.
سجد الأوّل، باعترافه، شكراً لله على هزيمة مصر في العام 1967، وبرر ذلك بالقول صوتاً وصورة: “مصر لم تنتصر، وهي في أحضان الشيوعية، فلم يُفتن المصريون في دينهم“. لا جدوى، بالتأكيد، من التذكير بحقائق من نوع أن مصر لم تكن في أحضان الشيوعية، وأن عبد الناصر نكّل بالشيوعيين. ولكن ثمة فائدة من القول إن هذا الكلام داعشي بامتياز. ولعل هذا من فوائد النظر إلى ما وقع، أو قيل، في الماضي بأثر رجعي، إذ يوفّر الحاضر لغة ومفردات جديدة، يمكنها القبض على شيء ما كان دائماً هناك، ولكن بدلالات لم يوفرها الواقع في حينه.
المهم، أن في خلاصة هذا الكلام عن الفتنة، والدين، والنصر والهزيمة، ما يُحرّض على، ويجعل من الدين مرجعية للسياسة، وكلاهما، في معادلة الشعراوي، مشروط في صلته بالآخر بتأويل فردي لا ينجو من إصرار على تحيّزاته الشخصية. فمَنْ من ملايين المصريين، والعرب، والمسلمين في كل مكان آخر، في ذلك العام، تمنى الهزيمة لمصر خوفاً على دينه، أو فكّر حتى في وضع الدين في ميزان الأرباح والخسائر؟ ربما تمنى البعض هزيمة مصر وعبد الناصر، ومن المشكوك أن دوافعهم كانت دينية.
على أي حال، أصبح الشعراوي بعد مرور أقل من عشر سنوات، على إعلان الفرح بالهزيمة، وزيراً للأوقاف، وفي عهده، للمرّة الأولى، ربما في تاريخ الدولة المصرية (وبقية دول العالم، بالتأكيد) يمنح وزير للشؤون الدينية رخصة لإنشاء بنك في مصر، متجاوزاً سلطة وزيري الاقتصاد والمالية. كيف حدث ذلك، ولماذا؟
وعلى الأرجح، لم يكن من قبيل الصدفة أن يُفتتح المصرف المُسمى “بنك فيصل الإسلامي المصري“ ليكون أوّل بنك “إسلامي“ في مصر في العام 1979 وأن يكون في قائمة مؤسسيه زغلول النجّار، الداعية وصاحب نظريات الإعجاز العلمي (وهو شخصية تلفزيونية، أيضاً) وتوفيق الشاوي، من قادة الرعيل الأوّل للإخوان المسلمين في مصر، وأن يكون صاحب المشروع، ورئيس مجلس الإدارة من أبناء الملك فيصل في السعودية. وطالما الشيء بالشيء يُذكر، في العام 1971، أي قبل هذا التاريخ بثماني سنوات، كان الأب قد تعهّد لرئيس جامعة الأزهر بمساعدة مالية قدرها مائة مليون دولار للإسهام في كفاح الإسلام الفكري ضد الشيوعية.
المراد من كل هذا الكلام القول إن مشروع الأسلمة لم يُولد في مصر، ولا في أي مكان آخر، بعيداً عن، وفي معزل عن، بنية تحتية، متشعبة الأطراف كرأس “ميدوزا”، وثيقة الصلة بالسوق، ومحمية بسلطة الدولة وقوانينها، وهي تمارس الانتخاب والإقصاء، فتُدني شرائح بعينها، أو حتى تخترعها، وتُقصي غيرها، في عملية توليد لما ينبغي أن يُكوّن، ويكون، رافعة اجتماعية للنظام القائم. وهذا غير ممكن دون غطاء أيديولوجي يمثل مصدراً للشرعية، وخطاب يسوّقه ويعبّر عنه. وفي هذا سياق يمكن لمَنْ جعل من الدين، مشروطاً بتأويله الشخصي، مرجعية للسياسة، أن يشتغل، أيضاً، حارساً للأيديولوجيا، ومُنتجاً للخطاب.
والواقع أن ثمة صلات نشأت على مدار العقود الأربعة الماضية، بين أغلب حرّاس الأسلمة، ومنتجي خطابها، الذين احتلوا شاشات التلفزيون، والفضاء العام، وما لا يحصى من البنوك، والشركات، والجمعيات الخيرية، لا في مصر وحدها، بل في كل مكان آخر، في العالم العربي وخارجه.
فأغلب هؤلاء اشتغل في مجالس الإدارة، وفي لجان الفتوى، والهيئات الإدارية والاستشارية. وأبرزهم في الوقت الحاضر القرضاوي، الذي أشرف على، وأسهم في إنشاء أكثر من بنك وجمعية عابرة للحدود، وله نصيب في الأسهم والأرباح. وتجدر الملاحظة، هنا، أن بعض البنوك، والجمعيات، وأصحابها، تعرضوا للملاحقة القضائية، في الولايات المتحدة وأوروبا، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ومع ذلك، لم يظهر حتى الآن سوى ما يطفو من رأس جبل الجليد العائم على السطح.
على خلفية كهذه يتموضع كل كلام محتمل عن الشيخ الشعراوي، الذي كان، على الأرجح، الأب الروحي لظاهرة الدعاة التي غزت شاشات التلفزيون في العالم العربي، على مدار العقود الأربعة الماضية، واكتسبت حدة وكثافة استثنائية، في زمن الفضائيات، الخاصة والمملوكة للدولة، وقد حاول كل من جاءوا بعده تقليده بطريقة أو أخرى.
قبل الاستطراد، تجدر الملاحظة أن الدكتور مصطفى محمود، الذي سبق الشعراوي على شاشة التلفزيون، كان وجهه الآخر، كما كان كلاهما تجسيداً لضلع من أضلاع دولة “العلم والإيما
ن“. الأوّل يمثل العلم، ويتكلّم لغته، والثاني يمثّل الإيمان ويتكلّم لغته. ولم يكن في صعود الاثنين، في عقد السبعينيات، كمنتجين لخطاب الأسلمة مجرّد صدفة، إذ كان كلاهما مُقرباً، بالمعنى الشخصي، من الرئيس السادات، وكانت لكليهما صلات بعالم المال والأعمال.
في أسبوع قادم نُكمل، سيحتاج الأمر معالجات كثيرة، بالتأكيد. ولمَ لا.
khaderhas1@hotmail.com
إقرأ أيضاً:
1979، مرّة سادسة..!!