إذا أعدنا تدوير عبارة ماركس الشائعة عن مكر التاريخ فلنقل: إن التاريخ هو أهم الروائيين وأبرع كتّاب السيناريو على مر العصور. فحتى في أكثر أحلام اليقظة جموحاً لم يكن ليتسنى لأحد من صنّاع السياسة الأميركية أن يخوض مجابهة مع السوفيات، في أفغانستان، في ظروف أفضل من تلك التي وفّرها العام 1979.
تناولنا في أسابيع سابقة جانباً من دوافعهم وحساباتهم الاستراتيجية، ولكن المصادفة وفّرت لهم ثلاثة حلفاء من مفارقات التاريخ، وعدم اكتراثه بالشقاء الإنساني، وميله للمزاح الثقيل، وجودهم في وقت واحد، وفي اللحظة المناسبة لعودة، وإعادة، الدين إلى السياسة: باكستان ضياء الحق، وسعودية ما بعد الطفرة النفطية، ومصر الساداتية. ولم يكن للجهاد الأفغاني أن يكون ناجحاً، وأن تتجاوز آثاره أفغانستان، وأن تُولد من رحمه موجة الإرهاب الجهادي الراهنة، التي ضربت العرب والمسلمين والعالم، لو لم توجد هذه القوى بالمعنى السياسي، والعسكري، والأيديولوجي في المعسكر الأميركي.
ولم يكن لكل ما تقدّم أن ينطوي على دلالات ورهانات وجودية تماماً، لدى فرقاء المعسكر الأميركي، لو لم توجد في وقت واحد، وفي اللحظة المناسبة، إيران ما بعد الشاه، المعادية للأميركيين والسوفيات، الثورية بأيديولوجيا الضحوية الشيعية، والساعية إلى زعامة عالم إسلامي مُتوّهم، وحتى يحدث ذلك، إلى تقسيم حكّامه إلى راديكاليين وعملاء، وتقسيم العالم إلى مُستضعفين ومُستكبرين.
لكل من هؤلاء قصة تُروى، وفي كل منها ما يُكوّن، ويؤثّث، مشهد الحرب الباردة الأخير في أفغانستان، الذي عاد عليها، وعلينا، وعلى العالم بالويل والثبور. ولنبدأ بباكستان، التي حكمت عليها الجغرافيا، وخيارات قادتها، أن تكون قاعدة خلفية للجهاد الأفغاني، وأن يمر عبرها السلاح والمال في الطريق إلى أفغانستان، وأن تقام على أراضيها معسكرات التدريب على القتل، وصناعة المتفجرات، وكذلك المدارس الدينية التي فخخت الوهابية، معطوفة على القطبية الإخوانية، موادها الدراسية بشحنات من البارود الأيديولوجي تكفي لنسف العالم.
وُلدت باكستان من كارثة تقسيم شبه القارّة الهندية في العام 1947، ووقعت في سياق الولادة مجازر، وعمليات تطهير عرقي، وتبادل سكّان، لم تنل، للأسف، ما تستحق من اهتمام خاصة في الأدب السياسي العربي لتمكين العرب من الاطلاع على حجم الكارثة، وكلفتها الإنسانية الباهظة.
ومع ذلك، المسألة الأهم في تاريخ ولادة الدولة الباكستانية أنها بلا سند تاريخي، أو قومي، فليس في كيان وكينونة ما أصبح دولة باكستان بشقيها الغربي والشرقي، بعد العام 1947، ما يبرر وجودها كدولة سوى الدين. وعلى الرغم من حقيقة أن صنّاع الدولة الباكستانية الأوائل كمحمد على جناح كانوا، في الغالب، علمانيين، إلا أن ورثة جناح، الذي لم يُعمّر طويلاً، لم يعثروا على فكرة توحيدية مُوحِدة تبرر وجود الدولة في معزل عن الدين.
ولم يكن لم قبيل الصدفة أن رجل باكستان القوى، ضياء الحق، الذي استولى على السلطة في العام 1977، شبّه الدولة الباكستانية بإسرائيل، التي نشأت معها في وقت واحد تقريباً، واستمدت، مثلها، مبرر وجودها من الدين. وقد ازداد حضور الدين لا كمكوّن رئيس للهوية بل كمعطى سابق، بعد جولات عسكرية فاشلة مع الهند، ومع قضية كشمير، وانفصال باكستان الشرقية (بنغلادش) في العام 1971. ومن الضروري التذكير أن حرب استقلال بنغلادش شهدت أكبر عمليات الاغتصاب في تاريخ القرن العشرين.
كان ضياء الحق صاحب قناعات دينية قوية، خلافاً للغالبية العظمى من ضبّاط جيشه في سبعينيات القرن الماضي، وربما تكون القناعات أسهمت في خياراته، ولكن القناعات الشخصية لا تصلح مُبرراً كافياً لتفسير وتبرير السياسة وخياراتها. في مصر، مثلاً، أطلق الرئيس السادات على نفسه لقب الرئيس المؤمن، وتبنى شعار دولة العلم والإيمان، ولكن اللقب والشعار كانا مجرّد قناع لسياسة تستهدف الاستعانة بالإخوان المسلمين، الذين أُخرجوا من السجون، للحد من نفوذ اليساريين، وتبرير سياسات بعيدة المدى من نوع الانتقال إلى المعسكر الغربي، ومصالحة الإسرائيليين.
وبهذا المعنى لم تكن قناعات ضياء الحق الشخصية أكثر من قناع لتحويل الإسلاميين، وفي طليعتهم جماعة المودودي، إلى حلفاء بعد الاستيلاء على السلطة، خاصة وأن هؤلاء كانوا مُعادين للرئيس السابق بوتو وميوله الليبرالية. وفي سياق كهذا، كان من فوائد الانخراط في المشروع الأميركي، في أفغانستان، تفادي ضغط وعزلة دوليين نجما عن الاستيلاء على السلطة بالانقلاب العسكري، وإعلان الأحكام العرفية، وإعدام بوتو، هذا كله إضافة إلى ضرورة كسب ود الحليف الأميركي في صراع دائم مع الهند.
ومع ذلك، كان ثمة ما يبرر، بالتنسيق مع السعوديين، دعم أكثر العناصر الأفغانية رجعية، وعداءً للقومية، وميلاً إلى الوهابية والإخوان، وهذا يتمثل في حقيقة أن المناطق الحدودية على الجانب الباكستاني مع أفغانستان، التي تقطنها قبائل باشتونية على الجانبين، تُعتبر في نظر القوميين الأفغان جزءاً من بلادهم، ويحق لهم المطالبة باستعادتها، وفي أفضل الأحوال يمكن أن تنشأ فيها حركات انفصالية يحركها الأفغان، ويدعمها الهنود. لذا، كان الخيار الأفضل إلى جانب إرضاء الإسلاميين المحليين، دعم أكثر جماعات الأفغان تشدداً في الدين، وبعداً عن القومية.
تضافر هذا كله لتُسهم باكستان في عودة الدين إلى السياسة، على فرض أن هذا الخيار يخدم تثبيت السلطة في الداخل، ويُرضي الإسلاميين المحليين، والمانحين السعوديين، ويُقنع الأميركيين بغض النظر عن الانقلاب، وإعدام بوتو. الصحيح أن الأميركيين لم تكن تعنيهم الهوية الأيديولوجية لمّن يقتلون الروس في أفغانستان، بل مدى براعتهم في القتل، وتركوا للباكستانيين والسعوديين سياسات الهوية. وكان، طبعاً، ما كان.
khaderhas1@hotmail.com