بقلم: يوناتان كرويتنر، الأمين العام للفدرالية السويسرية للجاليات اليهودية
قبل 120 عاما، انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، الذي وضَع الحَجَر الأساس لانشاء دولة إسرائيل. ضيف swissinfo.ch الكاتب جوناثان كرويتنَر، الذي يتولى منصب الأمين العام في الفدرالية السويسرية للجاليات اليهودية، يوضح رؤيته للأحداث التي شَكَّلَت وجهة النظر حول الصهيونية وإسرائيل إلى يومنا هذا.
“قمتُ بتأسيس الدولة اليهودية في بازل. ولو أنني قلت هذا بصوت عال اليوم، فسوف أواجَه بعاصفة من الضحك في جميع أرجاء المعمورة. ربما بعد خمس سنوات، وفي جميع الأحوال بعد خمسين سنة، سوف يدُرك الجميع ذلك”
تيودور هرتزل، 1897.
نهاية الإقتباسبالكاد ما توجد كلمة أخرى يُساء فهمها أو استخدامها مثل الصهيونية. وكثيراً ما تُستَخدَم كلمة “صهيوني” بشكل خاطئ كمُرادف لـ “يهودي” أو “إسرائيلي”، كما يميل مؤيّدو نظرية المؤامرة إلى الحديث عن “مؤامرة يهودية عالمية”. وعندما احتفل اليهود السويسريون بذكرى مرور 120 عاماً على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في نهاية شهر أغسطس من هذا العام، لم يكن عدد مَن يَستَغرب ذلك تماماً بالقليل. إذاً، ما الذي يدفع اليهود السويسريون إلى الشعور بالغِبطة بهذه الذكرى، سيما وأنهم مواطنون سويسريون وليسوا إسرائيليين؟ وما هي العلاقة بين اليهود السويسريين وإسرائيل، وما الذي يربطهم بالصهيونية؟
“حركة وطنية من بين حركات كثيرة أخرى”
توضيح سوء الفهم المُرتبط بمعنى كلمة “الصهيونية” ليس بالصعب: ففي أواخر القرن التاسع عشر، كانت الصهيونية حركة وطنية ديمقراطية – ضمن حركات كثيرة أخرى – لا أكثر ولا أقل. وعلى عكس الحركات الوطنية الأخرى، منحت الحركة اليهودية لنفسها اسما خاصاً – هو الصهيونية.
وكان الهدف من الصهيونية هو إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي. ذلك أن الأمل المعقود بزوال العداء للسامية نتيجة انتشار قيم ومفاهيم عصر التنوير، ومعرفة المَزيد عن الديانة اليهودية، كان قد تحطم في أواخر القرن التاسع عشر في الواقع. بَلْ وعلى العكس من ذلك، حَظِيَت بعض الأفكار الجديدة المُعادية لليهود بشعبية مُتزايدة، منها أن اليهود لا يمكن أن يُصبحوا جزءاً من المُجتمعات الأوروبية أبداً لأنهم “عرق أدنى شأناً”، حَسب مزاعم مُبتدعي الحجج العلمية الزائفة الذين قادوا هذا العداء “الحديث” للسامية.
وفي فرنسا، بلغت مُعاداة السامية ذروتها في ما يُسمى بقضية درايفوس رابط خارجيفي نهاية القرن التاسع عشر، عندما اتُهِمَ النقيب الفرنسي ألفريد درايفوس، وهو فرنسي الجنسية يهودي الديانة زوراً بالخيانة. وحينها، كانت مُعاداة السامية هي الدافع الحقيقي وراء هذا الإتهام. وفي أوروبا الشرقية أيضاً، احتَدَمت المذابح ضد اليهود المرة تلو الأخرى. وقد أدَّت هذه العوامل مُجتمعة، إلى تَرسيخ اعتقاد مؤسِس الصهيونية السياسية المُعاصرة تيودور هرتزل ومساعديه، بأن اليهود لم يَعُد لديهم أي وطن رغم كل ما يبذلونه من جهود للإندماج في المجتمعات الأوروبية، وحاجتهم بالتالي إلى إنشاء “دولة يهودية” خاصة بهم.
لا مؤيد ولا معارض
بيَد أنَّ ردود أفعال اليهود السويسريين كانت مُتحفظة – كعادة السويسريين – عندما شَرَعَ هرتزل قبل 120 عاما بالضبط بالإعداد للمؤتمر الصهيوني الأول في بازل. ففي وقتها، لم تَحظَ الصهيونية بالتأييد، لكنها لم تُقابل بالمعارضة أيضاً، بل كان الموقف منها مُحايداً. حتى أن صهيونياً فرنسياً اشتكى في المؤتمر الصهيوني الثاني الذي عُقِدَ بعد ذلك بعام في بازل أيضاً، من “عدم إهتمام اليهود السويسريين” بهذا الموضوع.
نريد أن نكون يهوداً جيّدين ومواطنين سويسريين جيّدين أيضاً، ولا نتمنى وطناً آخراً بأيّ حال من الأحوال
نهاية الإقتباسوبالفعل، لم يكن اليهود السويسريون مُتحمّسين حقاً للأفكار الصهيونية في البداية. ويُمكن إرجاع ذلك إلى سَبَبين على الأقل: فمن جهة، كانت المذابح في أوروبا الشرقية تبدو بعيدة جداً، وحتى مع عدم خلو سويسرا تماماً من بعض المشاعر المُعادية للسامية، إلا أن اليهود الذين كانوا يعيشون فيها، والذين استقر أغلبهم هنا منذ عدة قرون، كانوا مُرتاحين نسبياً. وقد حصل اليهود في سويسرا على حقوقهم المدنية والقانونية منذ عام 1866، كما أنهم كانوا مُندمجين بشكل جيد في المجتمع. على الجانب الآخر، كان اليهود السويسريون يخشون اتهامهم بالولاء المزدوج: “نحن نريد أن نكون يهوداً جيدين ومواطنين سويسريين جيدين أيضا”، حسبما أكد طبيب يهودي من بازل بعد المؤتمر الصهيوني الأول في الصحيفة الإسرائيلية الأسبوعية، وكما أضاف: “نحن لا نتمنى وطناً آخراً بأي حال من الأحوال”.
التحول بعد المحرقة
مع صعود الحركات المُعادية للسامية في سويسرا، مثل الجبهة الوطنية، اكتسبت الصهيونية المزيد من الأتباع بين اليهود في الكنفدرالية في ثلاثينيات القرن الماضي. وفي نفس الوقت، فرَّ العديد من اليهود الألمان إلى سويسرا – حاملين معهم قناعتهم بحاجة اليهود إلى دولة خاصة بهم. بيَد أنَّ الدَعم السياسي القوي للأفكار الصهيونية بين اليهود السويسريين، لم يظهر بالفعل، إلّا عقب الجرائم التي ارتكبها النازيون بحق اليهود. فبعد المحرقة، لم يعد أي يهودي سويسري يشك بجدوى إقامة وطن قومي لليهود.
وفي عام 1948، تحولت الأفكار الطوباوية إلى حقيقة واقعة، مع الإعلان عن قيام دولة إسرائيل. وبين عشية وضحاها، أصبح لكلمة الصهيونية معنى جديد: فبعدما كان الأمر قبل التأسيس يتعلق بإقامة دولة يهودية، أصبحت المسألة الآن تتعلق بالعيش في دولة يهودية.
من جانبها، أعلنت الفدرالية السويسرية للجاليات اليهودية، وهي المنظمة الجامعة لليهود السويسريين، تضامنها مع إسرائيل منذ البداية. وبعد مضي ساعات قليلة فقط على إعلان قيام الدولة اليهودية، أرسلت المنظمة “دون إبطاء برقية تهنئة الى المجلس الوطنى اليهودى، أكدت فيها تضامنها الكامل مع الدولة الوليدة”، كما جاء في التقرير السنوى للمنظمة فى عام 1948. وخشية اتهامها بالولاء المزدوج، صرحت الفدرالية السويسرية للجاليات اليهودية علنا بعدم حدوث أي تغيير في “حب وولاء وإخلاص” اليهود السويسريين للدولة السويسرية، “رغم جميع العلاقات الدينية والثقافية والروحية القوية” التي تربطهم بإسرائيل.
أوقات صعبة للدولة الفتية
الوقت الذي أعقب الإعلان عن تأسيس الدولة اليهودية كان صعباً: فقد تعرضت إسرائيل لهجوم من الدول المُحيطة بها عقب إعلان الإستقلال مُباشرة. من جانبهم، اتخذ اليهود السويسريون موقفاً مؤيداً للدولة اليهودية، التي تمكنت من الدفاع عن نفسها بنجاح أمام هجمات جيرانها. كذلك تعززت العلاقة بين اليهود السويسريين وإسرائيل خلال حرب الأيام الستة في عام 1967، حيث أعرب اليهود السويسريون بالإجماع – وبشكل يفوق أي جالية يهودية آخرى في الشتات – عن مشاركتهم الوجدانية مع إسرائيل، التي انعكست بشكل تبرعات ومن خلال معالم التعاطف العامة.
حتى ذلك الوقت، كانت غالبية سكان سويسرا لا تزال متضامنة مع إسرائيل – الأمر الذي لن يستمر طويلاً. ومع حلول أعوام السبعينيات، بدأ قلق اليهود السويسريين يتصاعد بشأن الرأي العام السويسري تجاه إسرائيل، وكانوا يجدون أنفسهم في موقف المُضطَر للدفاع عن السياسة الإسرائيلية وتوضيحها بشكل مُتزايد، حتى وإن لم يناصروها دائماَ. وحتى عام 1982 عندما نشبت الحرب في لبنان، لم تكن هناك أصوات يهودية تنتقد إسرائيل بشكل علني في سويسرا. لكن هذا العام، شهد ولأول مرّة، تشكيل مجموعة يهودية سَمَحَت لنفسها بانتقاد اسرائيل علانية، ولم تتوان بالتعبير عن “استيائها من الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان” في صحيفة ‘نوية تسورخر تسايتونغ’ (الصادرة بالألمانية في زيورخ). وفي ذلك الوقت، توحدت هذه الأصوات المُنتقدة معاً تحت سقف واحد. ورغم تأييد هذه المجموعة المُنتقدة للفكرة الأساسية للصهيونية الداعية إلى ضرورة توفر اليهود على دولتهم الخاصة بهم، إلّا انَّهم قوبلوا بالشك والريبة من غالبية اليهود السويسريين.
أعلام إسرائيلية تحترق أمام القصر الفدرالي
ومع عقد محادثات السلام في مدريد، وتوقيع اتفاقية أوسلو للسلام في أوائل التسعينات، عاد بعض الهدوء إلى الأجواء المشحونة ضد إسرائيل. لكن فَشَل مفاوضات السلام، أدى إلى اندلاع شرارة الإنتفاضة الفلسطينية الثانية (أو إنتفاضة الأقصى في عام 2000)، وحدوث موجات تضامن كبيرة مع الفلسطينيين. وفي أبريل من عام 2002، أثار اقتحام الجيش الإسرائيلي مخيم جنين للاجئين لقتال مُسلحي وفصائل الأمن الفلسطيني، انتقادات شديدة في سويسرا. وأمام القصر الفدرالي في برن، أحرِقَت أعلام إسرائيلية لُطِخَت بالصليب النازي المَعقوف على هامش مُظاهرة مؤيدة لفلسطين. بيد أنَّ الكراهية لإسرائيل استهدفت اليهود السويسريين أيضاً، حيث تعرضت الفدرالية السويسرية للجاليات اليهودية لوابل من المخاطبات المُعادية للسامية، كما ظهرت رسومات ووقعت هجمات لفظية مُعادية للسامية في الشوارع. وعنونت مجلة تاكلز (Tachles) اليهودية: “إنذار معاداة السامية في أوروبا: الوقت الأسوأ منذ الحرب العالمية”. أما آخر الموجات المعادية للسامية فقد امتدت عبر أوروبا خلال حرب غزة في عام 2014.
اختلاف حول سياسة إسرائيل بين اليهود أيضاً
لكن اليهود السويسريين لا يتحملون مسؤولية السياسة الإسرائيلية. وفي نهاية المطاف، يحمل معظم هؤلاء جواز السفر السويسري وليس الإسرائيلي. وهم يشاركون في الإنتخابات، ويُدلون بأصواتهم، ويساهمون في الخطابات السياسية والإجتماعية، ويتحملون المسؤوليات كمواطنين سويسريين، والتي ليس آخرها أداء الخدمة العسكرية. أما الآراء حول السياسة الإسرائيلية الحالية فمُتباينة على نطاق واسع، لكن الغالبية العظمى من اليهود السويسريين مُتفقة على ضرورة توفر اليهود الراغبين بالعيش في دولة يهودية على فرصة للقيام بذلك. وحيث وضع المؤتمر الصهيوني الأول حجر الأساس لتمكين هذا اليوم، فإن الذكرى الـ 120 لهذا المؤتمر هي سبب وجيه للإحتفال بالنسبة لليهود السويسريين.
سويس أنفو