اقامت “مفارز” المخابرات السورية دهرا في فندق البوريفاج الذي حولته مقراً لتعذيب اللبنانيين وترويعهم، قريبا مما كان يسمى المقر الرئاسي الموقت. قصص وحكايات تفوق الاحصاء كان مسرحها ذلك الفندق البيروتي الفخم على شاطىء الرملة البيضاء، تكشف عن خسة رجال المخابرات السورية الذين عاثوا فساداً ورعباً في طول البلاد وعرضها، وضحاياها بعض اهل هذه البلاد. اليوم، بعد مضي سنتين على نهاية عهد البوريفاج وعنجر وغيرهما من مقرات غازي كنعان ووريثه رستم غزالة، نستعيد هنا واحدة من قصص البوريفاج المؤلمة، علّها تذكّر زعيم “التيار الوطني الحر” ومحازبيه اليوم بأن ممالأة سوريا البعث ليست سبيلاً مشرّفاً الى الرئاسة ولا الى قوة المسيحيين في لبنان.
هذه صورة بعضهم، في واحد من مشاهدهم الأخيرة، بعد خروجهم من فندق البوريفاج الذي حوّلوه، مديداً، حجراً مركزيا للانحطاط والعفن والترويع.
هل تشفق عليهم في بؤسهم هذا البادي عليهم في مشهدهم الاخير، بعد خروجهم من حجرهم ليفاجئهم، للمرة الاولى، الضوء الطازج وزرقة البحر على شاطىء الرملة البيضاء؟
هل اخافتهم الزرقة والطزاجة، واشعرتاهم بعريهم من القوة العمياء الغاشمة التي كانت لهم في جحرهم المديد الذي صنعه لهم سجن البعث الكبير، البائس، في بلدهم قبل بلدنا؟
وبعد مشهدهم الاخير هذا، هل عادوا مقهورين خائفين الى سجنهم الاصلي، الى بؤسهم الاصلي، هناك، حيث غلبهم الحنين الى مشهدهم الاخير، وما قبل الاخير، حين كانوا مستمتعين مديداً بشيء من الرخاء والحرية في هذه البلاد؟ فلنحدق ملياً في مشهدهم هذا، في ثيابهم المستعارة والمتهدلة على اجسامهم التي لا تدرك انها بائسة وشقية. فلنحدق فيهم ونشفق عليهم فقط، آملين ان ينعتقوا يوما من شقائهم البعثي المديد.
-1-
كنت في مكتبي بمركز المعلوماتية التابع للجامعة اللبنانية في الحدث، حيث كنت اعمل موظفا، حين تلقيت اتصالا هاتفيا في نهار من بدايات تشرين الثاني 1994. قال لي الشخص المتصل انه رتيب في الجيش اللبناني، وان الرائد يريد اللقاء بي على فنجان قهوة. كنت قد تعودت على مثل هذا الاستدعاء كتعودي على اعتقالي المتكرر منذ 1991، بعد انتهاء تطوعي في الجيش اللبناني نصيرا لحركة الجنرال ميشال عون. على الهاتف طمأنني الرتيب قائلا ان استدعائي عادي وليس فيه ما يبعث على القلق، لأن لقائي الرائد لن يستغرق اكثر من ربع الساعة في المركز السابق لـ”القوات اللبنانية” الذي اتخذه الجيش اللبناني مقرا له بعد حل “القوات” ومطاردة محازبيها واعتقالهم.
-2-
على مدخل المركز، اخذوا مني مفاتيح سيارتي، وقادوني فورا الى مكتب قالوا ان الرائد سيحضر اليه بعد قليل، ثم خرجوا وأقفلوا الباب وتركوني وحدي. كانت الساعة الحادية عشرة قبيل الظهر تقريبا، وكان عليّ ان انتظر حائرا قلقا، فيما الوقت يمر بطيئا بطيئا، ساعة بعد ساعة. طرقت الباب مرات وناديتهم، فلم يجبني احد، لكنني ترددت في ان استعمل هاتف المكتب الذي اقتربت منه مرات، ومددت اليه يدي، فمنعتني حيرتي من استعماله. الساعات تمضي بطيئة بطيئة وأنا اتنقل بين المقاعد جالسا ومبدلا وضع جلوسي، ثم اقف وامشي قليلا، فيما الضجر يحاصرني ويرميني مجددا على مقعد، فأغفو مخمرا بالضجر، ثم افيق لتأخذني الغفوة مجددا، كمن يغفو في منامه. صور لأهلي وللعالم الخارجي الذي غادرته كأنما من سنين، راحت تبتعد وتبتعد وتتلاشى في اليقظات المتتالية الناعسة، المغبشة والثقيلة.
ضوء النهار التالي الذي ايقظني، كان رخوا وبائتا على وجهي المزيّت بدبق الضجر والانتظار والاهمال. ثم فتح الباب فجأة ودخل منه ثلاثة رجال في ثياب مدنية، فقلت: هذه هي نصف الساعة؟! من دون ان اسمع كلمة واحدة، اقترب مني احدهم وأدخل رأسي في كيس من قماش كان في يده، وأمرني ان امشي، فمشيت، موقنا انهم سيقودونني الى وزارة الدفاع في اليرزة، حيث سيحققون معي كما في مرات سابقة.
-3-
في الخارج قدّرت انهم ادخلوني الى شاحنة او فان. آنستني قليلا اصوات السيارات في الطرق التي ساروا فيها قرابة ربع الساعة، قبل ان يوقفوا السيارة التي كنت فيها معهم، وتغيب الاصوات تماما من حولي. سكوت هائل خيّم للحظات قطعتها اصوات فتحهم ابواب السيارة واغلاقها. وحين نزعت قليلا كيس القماش عن وجهي، رايت صورة لباسل الاسد على نافذة من نوافذ الفان المصفحة كلها بصفائح من حديد، بدل الزجاج، فأيقنت انني في قبضة المخابرات السورية. قلقا مرتعبا تقاذفتني الافكار والهواجس في متاهة بلا قرار.
كانوا اربعة رجال او خمسة في الفان الذي اخرجوني منه وساروا بي في أمكنة شعرت انها تحت الارض. حين نزعوا كيس القماش عن رأسي في غرفة، انهالوا علي صفعا ولكما ورفسا وضربا بأعقاب البنادق، شاتمين الجنرال ميشال عون والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير. استمرت الوجبة الاولى من الضرب والشتائم اكثر من نصف الساعة، قبل ان يجروني الى غرفة اخرى مشيّدة حديثا الى جانب زنازين قديمة لمحتها متماثلة في احجامها، فيما هم يرمونني في الجديدة ويقفلون عليّ بابها الحديد الذي من ثقوب في اعلاه يدخل ضوء شحيح لم يبدد العتمة التامة في الزنزانة الا بعد وقت مكّنني انقضاؤه من ان ابصر اصبعي في الظلام. تذكرت أن وجوه الرجال كانت شديدة السمرة ولهجتهم سورية، وهي الوجوه واللهجة اياها التي تبيّنتها في وجبة الضرب والشتائم المسائية، بعدما سمعت وقع اقدام كثيرة تخبط الارض مقتربة من زنزانتي.
فيما قبضاتهم واقدامهم وشتائمهم تنهال علي عشوائيا ومن دون تمييز، كنت اضع رأسي بين ذراعي لأحميه، قائلا لهم انهم اخطأوا في القبض علي انا الذي لم اقم بأي عمل مشبوه، فسمعت احدهم يقول لي: شو صاير عليك ليصير فيك هيك، اعترف، اعترف وينتهي الامر. وقبل ان اقوى على سؤالهم بماذا اعترف؟ خرجوا واقفلوا الباب وذهبوا، تاركين جسمي محطما، وسرعان ما رحت في نوم ثقيل لم استيقظ منه الا في الصباح، قبيل اقتيادهم اياي الى وجبة ضرب جديدة في غرفة اخرى، حيث مددوني على ظهري وتداوروا على ضربي بعصا على قدمي. كانت بقع من الدماء تلطخ جدران الغرفة التي قدّرت انها للتعذيب. في اثناء وجبة الفلق الصباحية هذه، كانوا يصرخون بي قائلين: كلاب اسرائيل، عصابات التقسيم والفتنة، كلاب اليهود.
ظهراً رموا لي في الزنزانة رغيف خبز ووعاء به مرق وعبوة بلاستيكية صغيرة قُطِع منها نصفها الاعلى وبها ماء آسن. حين طرقت باب الزنزانة طالبا الدخول الى حمام، جاؤوا وضربوني ضربا مبرحا، فظللت يومين من دون ان اقضي حاجتي. وفي المساء اذاقوني وجبة جديدة من التعذيب، هي الفروج: عار الا من الكيلوت، وفي معصميّ كلبتان معدنيتان موصولتان بجنزير معلق في سقف غرفة التعذيب، وجسمي مشدود الى عصى غليظة، رفعوني عاليا وانهالوا علي بالعصي التي راحت ضرباتها تؤرجحني في الجهات كلها.
-4-
مضى عليّ يومان وانا على هذه الحال. في الليل، كلما غفوت بين وقت وآخر، كان احدهم يخبط باب زنزانتي خبطات عنيفة من الخارج، فينتفض جسمي المحطم واستيقظ في حال من رعب مروع يكاد يوقف الدم في عروقي ويقطع انفاسي. كنت اسمع اصواتا وكلمات كثيرة، جعلتني اقدّر انهم يحضرون شبانا الى المعتقل الذي لا اعرف مكانه ولا سبب اعتقالي فيه.
في النهار الثالث، فيما كان احدهم يقودني الى الحمام، لمحت وجه شاب وعرفته. انه سامي خوري الذي كان مثلي جنديا متطوعا في الجيش اللبناني بقيادة العماد عون. لمحته وخفت ان اناديه، خشية ان يورّطنا ذلك في ما لا تحمد عاقبته. في النهارات والليالي التالية صرت اسمع سامي ينادي صارخا: يا الله، فيجاوبه احدهم: ما في الله هون ولاه، في انا وبس، قول بأمرك يا ريس، قول يا حيوان.
حدث هذا كله قبل ان يقودوني الى غرفة التحقيق، حيث على كرسي خشبية اجلسوني ورأسي داخل كيس القماش. اصداء كلماتهم التي سمعتها جعلتني اقدّر ان الغرفة فسيحة خالية. سألني المحقق اسئلة مكّنته من معرفة الكثير من سيرة حياتي، قبل ان يفاجئني قائلا: ليش حاطط متفجرات في سيارتك التي ضبطنا فيها كمية من المتفجرات؟ وحين جاوبته ان لا متفجرات في سيارتي التي تركتها في عهدة الجيش اللبناني، شتمني وشتم الجيش اللبناني، قبل ان يقول: الجيش اللبناني وسرمايتي سوا.
قدّرت انهم وضعوا متفجرات في السيارة، واصررت على رفض التهمة، فانهال المحقق عليّ بكرباج، قبل أن يستدعي الحراس، قائلاً لهم إن تجاوبي ضعيف، فليأخذوني، إذاً، الى غرفة التعذيب، حيث كوروا جسمي وسط دولاب شاحنة وراحوا يدفعونه فيتدحرج بي بينهم فيما هم يضربونني بالعصي ويرفسونني بأقدامهم، قبل أن يرتطم الدولاب بالجدار في آخر الممر الطويل. كان رأسي لا يزال في الكيس فيما الدولاب يتدحرج بي مرات جيئة وذهاباً مرتطماً بالجدران، مما أزاح فقرة من عامودي الفقري من مكانها ومزّق غضروفها، وحتى اليوم لم أُشفَ من هذه الاصابة التي تحتاج الى علاج دائم.
-5-
في النهار الخامس أو السادس اقتادوني مجدداً الى غرفة التحقيق. ما أن أجلسوني على كرسي الاستجواب حتى سألني المحقق عن دوري في قذف شاحنة عسكرية سورية في الحدث بقنبلة يدوية انفجرت فيها، فقلت إنني لم أسمع أي خبر عن هذه الحادثة التي لا علم لي بها. ذكر النهار الذي قُذفت فيه الشاحنة بالقنبلة، وسألني عن مكان وجودي في ذلك النهار، فجاوبته بأنني كنت في بلدتي تنورين. تلا على مسامعي قائمة طويلة من أسماء اشخاص، ثم توقف لدى تسميته المقدم سمير يونس ليسألني عن صلتي به، فقلت إنني لا اعرفه ولم أسمع باسمه قبل الآن. كنت أعرف المقدم سمير يونس، إبن بلدتي تنورين والمسؤول عني في الجيش اللبناني، حتى احتلال الجيش السوري قصر بعبدا الرئاسي في 13 تشرين 1990، وأعلم أنه اشتبك على رأس مجموعة من جنوده مع وحدات من الجيش السوري في عهد الرئيس أمين الجميل.
من الاسماء الاخرى التي ذكرها المحقق، عبّاد زوين عضو المنسقية العامة في “التيار الوطني الحر”، والذي كان سامي خوري قد أخبرني أنه هنا معنا في المعتقل، في أثناء لقائنا مصادفة في الحمام.
لم أعترف بأنني اعرف أي اسم من الاسماء التي ذكرها المحقق الذي استدعى الحراس وقال لهم إنني أرفض التعاون، وأن يأخذوني الى كرسي الصدمات الكهربائية.
-6-
مكبل اليدين والرجلين ورأسي في كيس القماش، وجسمي عار الا من الكيلوت، أجلسوني على الكرسي الكهربائية، وخرجوا من الغرفة وتركوني وحدي. ميكروفون أمام فمي وسماعتان تكبّران الصوت تضغطان على أذني. مع الشحنات الكهربائية الاولى الخفيفة التي سرت في جسمي واستمرت نحو 10 ثواني، سمعت أصوات اسئلتهم قوية في داخل رأسي، لكنني ظللت صامتاً متحملاً قوة الصدمات الاولى ومصمماً على عدم الكلام.
الدفعة الثانية من الشحنات إجتاحت أعضائي كلها أقوى من الاولى ولمدة 20 ثانية تقريباً. حاولت أن اصرخ، فلم أستطع، كأنما كل عضوٍ في جسمي قد تعطل فجأة، سوى حاسة البصر. حتى التفكير شُلّ في رأسي الذي تخدّرت أعصابه، وصارت نهباً لأرتال من دبيب النمل. أعصابي وعضلاتي يرجرجها وجيب داخلي خاطف، فأشعر أنها من الداخل والاعماق تتمزق وتتمزق. كان عليّ أن اقاوم عبثاً حال الانهيار وفكرة أنني مقبل على نهايتي. قاومت لأنني لم أقم بالعملية التي يريدون أن أعترف بقيامي بها، ليس لأنها معيبة، بل لأنني، وبكل بساطة، لست من قام بها.
في بداية الدفعة الثالثة من الشحنات الكهربائية، أغمي عليّ بعدما سمعت عبر السماعتين على أذني اسمي بيار ابي رعد ونضال حرب اللذين كنت اعرفهما، وأعرف أنهما سافرا قبل مدة الى الامارات العربية المتحدة للعمل هناك، لكن الصوت قال إنني وإياهما نفذت في الحدث عملية رمي الشاحنة العسكرية السورية بقنبلة يدوية.
لا أعلم بعد كم من الوقت أفقت من إغمائتي منطرحاً أرضاً بعيداً من الكرسي الكهربائية، ومبللاً بالماء. كنت أشعر أن جسمي رخو من الداخل وجلدي منمّل، لأنه في تقدّده موشك على التشقق، فيما أعصاب رأسي أو خلاياه متخشبّة. حين قرّبوا كوب ماء من فمي، لم أستطع أن أحرك فكيّ المنطبقين، فوضعوا شلمون بين شفتي المتخشبتين، كي أشرق الماء من الكوب فلم اقوَ على شرقه، فيما انهمر اللعاب من فمي والمخاط من أنفي، غزيرين كالبول الذي سال لا إرادياً من مثانتي.
(الأحد المقبل حلقة ثانية)
(نقلاً عن “النهار”)