حلقة ثانية من يوميات معتقل لبناني من “التيار الوطني الحر” في المقر الرئيسي للمخابرات السورية البعثية في الرملة البيضاء قرب فندق البوريفاج. وهي تواكب الذكرى السنوية الثانية لانسحاب الجيش السوري ومخابراته من لبنان الذي – بعد تحرره من الاستبداد المخابراتي البعثي المديد – يعيش منذ سنتين خوفاً مضاعفاً: خوف سوريا البعث من حرية لبنان، وخوفه على نفسه من انتقامات نظام الشر السرية المبرمجة، ومن الامراض المحلية التي رعاها هذا النظام وغذاها وضخمها في المجتمع اللبناني، وها هوذا يجعل رعايتها وبعثها وتجديدها شاغله الوجودي الدائم حتى خراب لبنان.
شهادة أنطون الخوري حرب – كتابة محمد أبي سمرا
-1-
حملوني من غرفة الكرسي الكهربائي، رموني في زنزانتي، حيث أخذ يشتد الوجع الرهيب في جسمي مع نوبات من الغثيان، من دون أن أقوى على التركيز والادراك في أي زمن أنا الآن وفي اي مكان. حتى بصري صار شحيحاً كليلاً، فلا أبصر سوى غبش به ثقوب سوداء، كالنوم الثقيل الذي نمته مخدّراً طوال 10 ساعات متواصلة، فتحوا عليَّ بعدها باب الزنزانة، لأخذي مجدداً الى غرفة التحقيق. لم أستطع الوقوف، فحملوني وساروا بي. أحدهم قال لي في نبرة متسائلة: ليش ما أكلت أكلك ولاه حيوان، وليش ما شربت المياه، شو جاي تموت عنا هون، يا حيوان؟! وبعد لحظات قليلة قال آخر: أنت كلب ولاه، كلب ورأسمالك كلب عندنا هون.
في هذه اللحظات عاودتني أصداء الاصوات التي سمعتها في النهارات والليالي السابقة. أصوات لا أزال حتى الساعة أسمعها في نومي، فتوقظني فجأة وتُذهب النوم من حواسي وجسمي. أصوات جريحة معذبة ليست من طبيعة بشرية، بل شبيهة بالتي ترسلها قطط أو كلاب مصابة بنوبات من المغص الشديد الملتاع. في الايام التالية، بعد تعرضي لما كان يتعرض له الذين كانوا يرسلون هذه الاصوات، رحت أرسل أصواتاً تماثلها، فايقنت أنها أصوات بشر مثلي، وأصابهم ما يصيبني.
عاودتني أصداء هذه الاصوات، فيما هم يحملونني محطماً مدمراً الى غرفة التحقيق، فقررت أن أقاوم، وتذكرت ما كنت قد سمعته من حكايات التعذيب في السجون السورية، وكم من الاشخاص قضوا في هذه السجون. وحين حدست أنهم سيستمرون في تدميري وسحقي حتى الموت على الارجح، قررت أن أوقاومهم حتى نهايتي، علّني أموت راضياً عن نفسي.
-2-
في النهار السابع من اعتقالي عرفت من أقوال الحراس الذين قادوني الى غرفة التحقيق، أن المحقق ضابط برتبة مقدم لم أبصره حين دخلت الغرفة وسمعت صوته يقول لي: انشاالله اليوم تكون أحسن من مبارح، وحابب تتعاون معنا. جاوبته: نعم سوف أتعاون، لكنني أريد أن أقول بعض الكلمات قبل أن تبدأ التحقيق معي. شلون تريد تحكي، قلي شلون؟ قال المحقق.
فجأة وعن سابق تصور وتصميم وإرادة قلت له: نحن لا نحبكم. الآن عرفت لماذا لا يحبكم اللبنانيون.
قبل وصولي الى هنا كنت أحسب أننا نكرهكم لانكم تحتلون بلدنا وتنهبونه، لكنني الآن أفهم اننا نكرهكم بقوة هذا العذاب الذي تنزلونه بي حتى الموت، هنا في هذا المكان الذي أجهل أين يكون، ولأنكم تتهمونني بعمل لا علاقة لي به. لا لا نحبكم، ولن نحبكم مهما طال زمن احتلالكم بلدنا، ولن نمارس أعمال عنف ضدكم. لا يهمني أن تقتنع أو لا تقتنع بما أقول. التعذيب الذي تنزلونه بي لن يفيدك في شيء. لذا أرجوك اعدمني فوراً، لانني غير معني بما تتهمونني به. أرجوك اعدمني الآن. قبل أن يستدعي المقدم المحقق الحراس، استشاط غضباً فيما هو يقول صارخاً: “أنتم يا كلاب ضد سوريا؟! ضد العروبة؟! حلّك تفهم يا حيوان أن سوريا قدركم في لبنان. لسه ما حبين تفهموا أنتم والحيوان تبعكم أن سوريا قدر لبنان؟!
دخل الحراس غرفة التحقيق وانهالوا عليّ بأيديهم وأرجلهم طوال أكثر من ساعة، حملوني بعدها ورموني في زنزانتي. في ما تبقى من ذلك النهار وفي ليلته، كان كلما وصل أحدهم في موعد خدمته، يفتحون له بوابة زنزانتي ليروح يضربني ويضربني حتى يسأم أو يتعب من ضربي.
بعد ضربة قوية سدّدها أحدهم بحذائه العسكري مباشرة الى فمي، وأحسست جراءها بالتماعة برق في عينيّ، خرج الدم مدراراً من فمي الذي ما أن تحسست بيدي أسنان فكه الأسفل، حتى انتزعت أصابعي في سهولة أسناناً ثلاثاً منه.
-3-
لاشعورياً تعوّدت – كلما سمعت أصوات خطىً تقترب من زنزانتي – أن أضع كتفي خلف بابها مباشرة، ليتلقى الكتف من جسمي المتلاشي والمحطم ركلات أقدام الحراس الاولى العنيفة التي تعوّدوا مبادرتي بها، كلما فتحوا باب الزنزانة. وحدهما كتفاي كانتا قادرتين، بعد، على تحمل قسوة ضرباتهم العشوائية التي لا مهرب لي من تلقيها، ولا بد أن تعطب باقي أعضاء جسمي الحساسة عطباً كبيراً لو أصابتها.
لكنهم حين فتحوا باب زنزانتي في النهار التاسع، لم يركلني أي منهم بقدمه، بل جرّوني مباشرة الى غرفة التعذيب بالصدمات الكهربائية. ما أن أجلسوني على الكرسي وأوثقوا جسمي اليه، واضعين السماعتين على أذنيّ والميكروفون أمام فمي، وخرجوا من الغرفة، حتى بادرتهم بأقذع أصناف الشتائم التي في ذاكرتي ومخيلتي.
أطلقت صوتي قوياً صارخاً معولاً، وحاملاً طاقة الحقد كلها التي غرستها ضرباتهم وكلماتهم في جسمي وروحي طوال الايام التسعة الماضية، ونثرتها شتائم عليهم، من رئيس جمهوريتهم حتى أصغر نفر في جيشهم ومخابراتهم. جاوبوني على شتائمي بأن عاجلوني بصدمات كهربائية عالية الشحنات، فلم يتدرجوا في قوتها كما في المرة السابقة. فجأة انقطع صوتي فلم أعد أسمعه الا في داخلي وجوارحي، كأنني أصرخ في منامٍ. وقبل أن يغمى عليّ تماماً، أحسست إحساساً جسمانياً خاطفاً وأخيراً بتسلخ مواضع من جلد رأسي.
حين استعدت وعيي في زنزانتي، لم أستطع تقدير الوقت الذي استغرفته غيبتي مغمى عليَّ. مددت يدي ولمست رأسي، فإذا خصل من شعري تتساقط بين اصابعي من دون أن أشعر بتساقطها، كأنها خصل من شعر شخص آخر. أجزاء ومواضع كثيرة من جسمي كانت لا تزال مخدّرة مبنجة، بينما كنت أشعر بتمزق عميق شديد الألم في الاجزاء والمواضع الحية أو التي استعدت الاحساس بها. وحين لمست صدري تساقط كذلك قسم من شعره في يدي. وفيما كان جسمي كله يعود الى تلاشيه وانحطاطه، لأغيب مجدداً عن الوعي، راودني إحساس خاطف بأنني اقتربت من نهايتي.
-4-
لكنني بدأت أصحو في ما تهيأ لي أنه صباح النهار التالي، أي العاشر من أيام مصيري المجهول. بعد الظهر سمعت أصداء خطوات تقترب من زنزانتي، فأيقنت أن موعد نهايتي يقترب في حال أجلسوني، بعد، على كرسي الصدمات الكهربائية. ابتعدت أصداء خطواتهم أو توقفت، فبدأت صور من حياتي تزدحم في رأسي وتتلاحق كأنها صور شريط طويل لا بداية له ولا نهاية. وجوه أهلي وأصدقائي في المدارس والجامعة ورفاقي في النضال… وأخيراً حضرتني صور ابن أخي الصغير الذي كنت مولعاً به، وسميناه حين ولد باسم الجنرال ميشال عون. نوبة هائلة من الحزن البعيد ألمت بي لأنني مقبل على الموت من دون أن أراه وأودّعه.
فجأة انهال عليّ شعور عميق بالرضا عن نفسي. ها أنذا ذاهب الى موتي راضياً مرضياً، ليس بإرادتي، بل بقوة ذاك القدر الأعمى، القاسي والظالم، الذي قال المقدم المحقق السوري إن عليّ الإقرار به وغيري من اللبنانيين جميعاً: سوريا قدر لبنان الذي لا مهرب منه ولا رادع له.
-5-
كذاهب الى الموت معزياً نفسه بالرضا عن نفسه وبالوئام مع نفسه وأفعاله كلها، فكرت أن أي ضعف يبدر مني حيالهم، فأقرّ بما يتهمونني به كي أؤجل بتّ في مصيري، سوف يورطني في مجهول لن يفضي بي الى غير الموت: ينقلونني الى سجن المزة في سوريا، وما أدراك ما سجن المزة، حيث يرمونني هناك منسياً لسنين طويلة، أو يحاكمونني ويعدمونني ويخفون جثتي. أرعبني هذا المصير المتخيل المحتمل، وقلت: أموت هنا والآن، قوياً راضياً عن نفسي.
لا لم أكن مهتماً بأن ابرهن لهم أنني قوي. هم سيان عندي أن أبدو لهم ضعيفاً أو قوياً صامداً. فحيال الاقتراب من النهاية تصير وحيداً تماماً مع نفسك، ولا أحد في الدنيا كلها يحضرك الا كصور بعيدة تبعث في روعك ما يشبه العزاء الحزين. في تلك اللحظات بدأت أفكر كيف يمكنني أن أوصل نوعاً من الوصية الى أهلي، تماماً كالذاهب الى إعدامه على كرسي كهربائي، فحضرتني صور حالات كثيرة تماثل حالتي في تاريخ المجتمعات البشرية. فجأة غمرني شعور عميق بحب الوطن، وطني، واذا بجبال بلدتي تنورين تمثل أمام ناظري جميلة، فقلت إنها لي وإنني لها، وجميل أن تبقى جميلة وحرة، ومن واجبي أن تبقى كذلك. للمرة الاولى في حياتي كلها راودني هذا الشعور الذي لا عهد لي به قط من قبل.
كنت مدركاً أنني أعزي نفسي وأودعها الوداع الاخير، مؤدياً على انفراد شعائر إماتة خاصة وشخصية ولا يشاركني فيها أحد، من دون أن اعلم مكان وجودي، وماذا يفعل الآن كل من أعرفهم ويعرفونني في العالم الخارجي الذي انقطعت عنه تماماً منذ عشرة أيام.
القطعة المكسورة من صحن البلاستيك التي أبصرتها على ارض زنزانتي، نبهتني فجأة الى الوسيلة التي تمكنني من ترك أثر ما يدل على أنني كنت في يوم في هذا المكان المجهول. أمسكت كسرة الصحن، وحفرت بها على الجدار فوق باب زنزانتي العبارة الآتية: أنطون الخوري حرب، شهر 11 سنة 1994. وحين فكرت أن أحفر ايضاً اسم المكان الذي أنا فيه، تذكرت فجأة العبارة التي كانوا يجاوبونني بها، كلما سالتهم اين أنا: أنت في جهنم الحمراء.
بعد وقت قصير من كتابتي العبارة التي تدل على أنني كنت هنا، سمعت وقع خطىً تقترب من زنزانتي، فوجهت كتفي نحو بابها. لكن حين فتح أحدهم الباب، فاجأني استبداله ركلي بحذائه بأن ناداني: تفضل أخ أنطون. استغربت هذه الكلمات التي سمعتها للمرة الاولى منهم، وكانت قد صارت منسية كالعالم الذي غادرته وانقطعت عنه منذ عشرة ايام. الكلمات هذه ونبرة صوت قائلها زادتني يقيناً باقتراب نهايتي، إذ فكرت إنها من الكلمات المحايدة التي يُنادى بها، عادة، الذاهبون الى الاعدام.
ثم إنهم لم يمسكوني ويجروني بتلك القسوة المعتادة، لإخراجي من الزنزانة. هذا دليل آخر على عدم حاجتهم الى إيذائي، بعد، فكرتُ، ما داموا على علم بأنني سأصير خارج الحياة ومحايداً كلماتهم، بعد وقت قصير. لذا لم يضعوا رأسي في كيس القماش كي لا أبصر شيئاً سوى الظلام، ما دمت سأغرق في العتمة الابدية بعد قليل. والضابط الذي رأيته فيما هم يقودونني، وكان برتبة نقيب، صار سيان عنده أن أتبين ملامح وجهه وتنطبع في ذاكرتي، ما دامت هذه الذاكرة ستنطفئ كلها في هنيهة خاطفة بعيد إجلاسي على الكرسي الكهربائي. هكذا نظرت في عيني النقيب، وقلت له: “أرجوك أريد أن أبعث خبراً لأمي بأنني كنت هنا عندكم. صامتاً حدّق النقيب في عينيّ، كأنه يقول لي إن امنيتي هذه سيان إن تحققت أو لم تتحقق.
-6-
كل شيء في سلوكهم أخذ يزيدني يقيناً بأنني ذاهب الى نهايتي المحتومة. قبل أن يدخلوني الى غرفة مصعد، قال الضابط النقيب لأحدهم أن يحضر لي بيجاما. إنها لباس الاعدام، فكرت. حين امر النقيب بغسلي بعد خروجنا من المصعد، قلت إنها غسلة ما قبل الموت. في بهو فسيح قرب المصعد، وجهوا الى جسمي العاري إلا من الكيلوت، أنبوباً من الكاوتشوك، فاندفع الماء من فوهته غزيراً وراح ينهمر عليّ بارداً، فأحسست بصقيع لم يطفئ الحمى الداخلية في جسمي المحطم. البيجاما التي أحضروها وأمروني بأن ألبسها، كانت عسكرية وأضفتها الى أشياء ما قبل الإعدام وترتيباته المسبقة.
(الاحد المقبل حلقة ثالثة وأخيرة)
10 أيام من عذابات مناضل عوني في مقر الرملة البيضاء للمخابرات السورية (1)