“ليلة جلائهم عن لبنان نِمْتُ بلا أرق لازم لياليّ 11 سنة”
شهادة انطون الخوري حرب – كتابة محمد ابي سمرا
في الحلقة الثالثة والاخيرة من هذه الشهادة، يروي صاحبها وقائع خروجه من مقر المخابرات السورية في الرملة البيضاء، واصفاً الآلام والجروح التي خلفتها في جسمه ونفسه ايامه العشرة في هذا المقر، بعدما كان روى في الحلقتين السابقتين
وقائع عذاباته في تلك الايام.
-1-
بعد الغسلة التي كنت موقنا انها التمهيد لاعدامي الذي رموا لي بيجامته، فارتديتها، فجأة ادخلوني الى مكتب فرشه وثير فخم، ومزين بشعارات بعثية وعلم سوريا ونسرها، وبصور لحافظ الاسد وابنه باسل. ثم خرجوا من المكتب وتركوني مع شخص في ثياب مدنية منشغل بأوراق امامه على طاولة مكتبه الذي رنّ هاتف عليه، فتناول سماعته وقال عقب اصغاءة قصيرة: حاضر سيدي، امرك سيدي.
اعاد الشخص السماعة الى مكانها وخاطبني قائلا: فوت لعند سيادتو، ناطرك فوت، ثم قام عن كرسي مكتبه فاقترب مني وأمسك يدي وجرني نحو باب فتحه امامي لأدخل منه، فدخلت، فاذا انا في مكتب آخر فسيح واكثر فخامة من الذي غادرته.
رأيت في المكتب الفسيح رجلا في ثياب مدنية، فنظر الي قائلا: أبرك، أبرك، فجلست على مقعد مستغربا مندهشا (لاحقا، بعد ايام من خروجي، رويت قصتي هذه لسامي خوري الذي كنت التقيت به في حمام المعتقل، فقال لي ان رجل المكتب الفسيح هو جامع جامع).
سألني الرجل، ان كنت شربت قهوة، وهل اريد سيجارة؟ وفي تلك اللحظة ايقنت ان الموت ليس مصيري. وسرعان ما احضر رجل المكتب السابق القهوة والسجائر، فيما رجل المكتب الفسيح يقلب اوراق ملفات على مكتبه. شعور عميق بالراحة غمرني، ورحت اتلاشى واتلاشى غير مدرك ان كان النعاس او الخمول هذا الذي استبد بجسمي كله وحواسي وتركني واهنا واهيا كطيف خارج الزمن والوجود.
قال لي رجل المكتب الفسيح: ولو يا انطون، انت ابن عيلة، شو هالحركات اللي عم تعملها؟ لاحقلي ميشال عون وماشي! مبيّن عليك شاب ابن عيلة… شو رح يفيدك ميشال عون؟!
مندهشا خاملاً سمعت كلماته التي كانت تصلني من بعيد، ثم قال: اكتشفنا ان عملية الحدث نفذها العكاريت من جماعة عرفات، وانت سوف تذهب الى بيتك. لم اصدق ما سمعت، فقلت: خلص ع البيت؟! فجاوبني متجاوزا سؤالي: بس بدي منك شغلي، نريد ان تتعاون معنا، ولا لزوم لأن تحكي شو صار معك. مش لازم تحكي لحدا ابدا شو صار. اشكر ربك انك طلعت من هون طيب، واذا عزت اي شيء نحن حاضرين. نريد منك ان تتعاون معنا.
لم اجاوبه في شيء، فتابع كلامه قائلا: يلا قوم امشي… بس ما تجرّب بعد اليوم تتشيطن، قعود عاقل ودير بالك ع شغلك. اما اذا مش عاجبك هالبلد، انا بنصحك تسافر، ونحن نساعدك اذا قررت السفر، خلصنا حركات. واخيرا قال في نبرة حاسمة: سوريا لا تُشتم في لبنان، لا احد يستطيع ان يشتم سوريا في لبنان، لا احد، ثم تقدم من الباب وفتحه قائلا لعسكري يقف خارجا ان يأخذني. امسك العسكري يدي وجرني خلفه واخرجني من المكتب الفسيح حتى بوابة المبنى، وقال لي ان اخرج، فخرجت.
-2-
الضوء باهر ومدوّخ في الخارج، والعالم فسيح، كأنني للمرة الاولى ابصر وانتبه ان في وجهي عينان. كأنني لا اعرف من انا ولن اتعرف الى نفسي. فجأة رأيت المقر الرئاسي الموقت، فأدركت انني كنت في مقر المخابرات في الرملة البيضاء قرب البوريفاج. من بعيد لمحت ضابطا في الجيش اللبناني اعرفه، فلوحت له بيدي. كنت متأكدا انه رآني ويحدق فيّ من دون أن يبادلني تحيتي بمثلها، ربما لأنه خشي ان يظهر على معرفة بي، انا الجندي السابق في الجيش أيام ميشال عون، والخارج من مركز المخابرات السورية مرتديا بيجامة الاعتقال وفي قدمي مشاية من الكاوتشوك، وشعري مشعث ومحطم الاسنان امشي مهدما ضائعا لا اعرف الى اين ولا في اي اتجاه.
مشيت مبتعدا من مقر المخابرات والمركز الرئاسي الموقت، وحين عبرت قربي سيارة اجرة، اشرت لسائقها، فتوقف. قلت له انني ذاهب الى الروضة، قرب السبتية، وانني أخذه تاكسي، فجاوبني: طلاع يا ابني طلاع. كان السائق في حوالي الستين من عمره، ولهجته جنوبية، وفاجأني بقوله: اكيد كنت مسجون هون الحمد لله عالسلامة، منيح انك طلعت طيب، ربك بيحبك. ثم روى لي ان صهره امضى اشهرا هنا عندهم لأنهم اتهموه بأنه مقرب من البعث العراقي، وخرج معطوبا، لا يسمع في واحدة من اذنيه ولا يبصر في عين من عينيه، قبل ان يقول لي ثانية: اشكر ربك يا ابني لأنك تسمعني وتراني، ولازم تروح تشوف حكيم.
في الطريق، حاولت جاهدا ان اشحذ تفكيري وذاكرتي المشتتين واركّزهما، كي ارشده الى الطريق المؤدية الى الروضة، حيث بيت اهلي. حين وصلت الى امام بيتنا، رجوته ان ينتظرني لآتيه بأجرة التاكسي، فلم يرض. سألته عن اسمه ورقم هاتفه كي اتصل به لاحقا، فقال: خلص يا ابني، الله معك، روح عند اهلك، ارتاح ما يهمّك.
-3-
كان باب بيتنا مفتوحا، ورأيت امي تكنس الشرفة الارضية امامه، فوقفت في مكاني بعيدا منها. حين انتصبت واقفة بعد لحظات، نظرت اليّ، وكادت ان تشيح وجهها عني قبل ان تكرر التحديق فيَّ مرات ثلاثاً حتى عرفتني وركضت نحوي وارتمت عليّ تبكي وتنوح وتصرخ، فأخرج صراخها أختي من البيت. جامداً واجماً تحركت بين أمي وأختي الى الممر الداخلي، حيث لمحتني في المرآة، فلم أتعرّف الى نفسي: بقع صغيرة عارية من الشعر في رأسي، ثلاث أسنان أمامية مفقودة من فكي الأعلى، بيجامة السجن على جسمي المحطم الهزيل الذي فقد نحو 15 كلغ من وزنه في 10 ايام.
– 4 –
في المستشفى حيث أمضيت خمسة أيام بعد خروجي من البوريفاج، بدأت أستعيد رويداً رويداً ما حدث لي. ساعة بعد ساعة، راحت الأوجاع في جسمي تشتد وأنا أتماثل الى الشفاء، فتنبعث في نفسي نوبات متلاحقة من الألم والغضب الهستيري الذي أخرجته صراخاً وشتائم، ليهرع الممرضات والأطباء لتهدئتي. ظللت على هذه الحال يومين اثنين مطلقاً بين ساعة واخرى نوبات غضبي الهستيري الذي يمزق أعصابي. لكنني في اليوم الثالث والرابع هدأت، ومررت بمرحلة من الحزن العميق الصامت والبكاء المتواصل، متذكرا رفاقي المفقودين – ومنهم ابن بلدتي تنورين، عادل ضومط، الذي اختفى منذ 13 تشرين 1990 – متخيلا أنهم تعرّضوا ويتعرضون لما عرفته في مقر المخابرات.
خرجت من المستشفى مصابا بتمزق في غشاء المعدة علي ان أتناول له دواء دائماً. اما فقرة ظهري التي انحرفت من مكا نها فتحتاج الى علاج مدى عمري كله. وها آنذا حتى اليوم مصاب بأرق وقلق ليليين يمنعانني من النوم قبل الساعة الثانية او الثالثة من الليل، رغم تناولي أقراصاً منومة ومهدئة على الدوام.
في الايام الاولى التي أمضيتها في بيت أهلي رفضت أن أقابل أحداً سوى قلة قليلة من رفاقي. أهلي بدورهم عن خوف تجنبوا أن يخبروا أحداً قصتي، وأصروا ألا أخبر أحداً بما حصل لي في البوريفاج. وتلافياً للقائي الزائرين الكثيرين الذين توافدوا الى بيتنا، أمضيت اسبوعين اثنين منعزلا في بيت امرأة من أقاربنا، لا أقابل احداً. في هذه المدة اصابتني حال من الايمان، فرحت أصلي وأصلي شاكراً الله على نجاتي. لكن هذه الحال سرعان ما تلاشت، بعدما عدت الى حياتي العادية وعملي في مركز المعلوماتية التابع للجامعة اللبنانية.
بعد ايام أتت دورية من الشرطة العسكرية اللبنانية الى إدارة الجامعة، فاعتقلني عناصرها وقادوني الى السجن في “قصر نورا” في سن الفيل. كان قد مضى يوم واحد على اعتقالي وسجني، حين أتاني ضابط بمحضر وقال إن علي ان اضع عليه توقيعي، قبل أن يحقق معي احد ويسألني سؤالا واحدا، فرفضت الاطلاع على المحضر وتوقيعه. أمضيت في سجن “قصر نورا” شهراً و20 يوما، أطلق بعدها سراحي، ليصدر في حقي حكم بسجني المدة نفسها، بتهمة التحريض على الفتنة والقيام بأعمال إرهابية.
-5-
في نهار خروج مفرزة المخابرات السورية ورحيلها عن الرملة البيضاء ذهبت الى هناك، فالتقيت موكب رستم غزالي يعبر امام المقر في سيارته المرسيدس السوداء. كنت مع صديقي محمد خالد، أحد نزلاء المقر، بسبب اعتقاله على حاجز للجيش السوري في الضاحية الجنوبية.
قلت للجنود اللبنانيين الذين كانوا يحرسون المقر إني صحافي، ودخلت أفتش عن الزنزانة التي أمضيت فيها ايامي العشرة؟ إهتديت اليها، فأضأت جهاز هاتفي الخليوي وقربته من الجدار فوق بابها، وقرأت العبارة – الوصية التي حفرتها بكسرة من صحن البلاستيك قبل 11 سنة: انطون الخوري حرب شهر 11 – 1994، ثم التقطت صورة لوصيتي.
خرجت من المقر في ذلك النهار، طائراً بفرح الانتصار، بلا أي شعور بالحقد والضغينة على السوريين، إلا رجال المخابرات وضباطهم. خرجت وفي رأسي دوي اصداء الاستغاثات والصرخات التي سمعتها في أيامي العشرة المشؤومة، وكان جواب جلاديّ رجال المخابرات عليها: ما في الله هون، تركوا الله عَ جنب يا كلاب، سوريا قدركم».
-6-
أنا من جيل عاش فتوته وتفتح وعيه على الدنيا من وله، فاذا بسوريا البعث قدر لبنان. جيل خائف ويخنقه شعور عام بعدم الرضا عن الحياة، حياته المختنقة والمحاصرة، وخصوصا حياة غير المنخرطين في صفوف الميليشيا وأجهزتها التي قهرت الناس وأذلتهم ودمرت المجتمع العادي، وجعلته مجتمعا حربيا. انه جيل لم يعرف الحياة العادية والطبيعية، سوى في الصور والمشاهد التي تبثها المحطات التلفزيونية العالمية عن الحياة خارج لبنان الذي اتسمت الحياة فيه بالقسوة والضيق والقلق.
أذكر من مشاهد طفولتي معلمة في أوتوكارنا المدرسي تصرخ بنا نحن الاطفال أن نخفض رؤوسنا ولا ننظر من النوافذ الى الخارج. لم أخفض رأسي، ونظرت من النافذة، فرأيت جثة امرأة مقطّعة مرمية الى جانب الطريق في محلة سد البوشرية.
في فتوتي تطوعت في الصليب الاحمر مدة 5 سنوات، فعايشت حروب إنشقاقات ميليشيا “القوات اللبنانية” في شوارع المناطق المسيحية، وأسعفت جرحاها وحملت الكثير من جثث قتلاها، قبل أن أعايش بعدها حرب الجبل في الثمانينات التي رأيت في أثنائها الكثير من اصدقائي ورفاقي يدمنون المخدرات وغيرها من الآفات الاجتماعية في مجتمع الحرب وفظاعاته المروعة.
في خضم هذه الحقبة السوداء ظهرت حركة العماد ميشال عون، واعدة الناس – وخصوصاً أبناء جيلي من الشبان – بالخلاص من قهر الميليشيات وسطوتها وتسلطها وحروبها المدمرة، فالتحقت في صفوف الجيش اللبناني متطوعاً، أنا الذي رفضت حضور أي اجتماع حزبي في حياتي المدرسية والجامعية كلها.
أما بعد ايامي السود في مقر المخابرات، فأعطيت معظم وقتي للنشاط المتواصل في “التيار الوطني الحر”، كي لا تظل سوريا البعث قدر لبنان واللبنانيين.
-7-
في 14 شباط 2005، أدت محاولة رفيق الحريري الخروج بنفسه وبسياسته وبلبنان من القدر السوري، الى إ خراجه من الحياة، مما أخرج الغالبية الساحقة من اللبنانيين من صمتها واستنكافها وعليهما، فقالت في 14 آذار 2005: لا ليست سوريا قدر لبنان.
أنا في الليلة التي تلت جلاء الجيش السوري ومخابراته عن لبنان، استطعت المرة الاولى بعد أيامي العشرة السود في مقر الرملة البيضاء، أن أنام ملء جوفي في الساعة 11 قبل منتصف الليل، فلم يتناوب عليّ القلق والأرق اللذان مرضت بهما في ليالي ما بعد المقر، فجافاني النوم قبل الساعة الثانية أو الثالثة من كل ليل. لكن تلك الليلة كانت الاولى والاخيرة التي لم يضنني فيها الأرق الليلي الطويل.
تــوضــيــح مــن أنــطـــون الــخــــوري حـــرب
الزميل والصديق محمد أبي سمرا المحترم.
أعرف غضبك من ممارسات المخابرات السورية التي كانت عاملة في لبنان، وأعرف رأيك بهم وموقفك منهم. وتجربتي التي نشرتها هي جزء من مكونات هذا الغضب. وقد لمست ذروته لديك منذ أكثر من عام، عندما طلبت مقابلتي لتسجيل روايتي في طور تحضيرك لملف ينشر في الذكرى الاولى لانسحاب الجيش السوري من لبنان. وكانت لدي رغبة في تعريف المنتسبين الجدد الى تيارنا على تاريخ هذا التيار في التضحية من أجل وطن حر.
لكنني فوجئت بمقدمتك للرواية المنشورة في “النهار” 29 نيسان الماضي، مذيلة بعبارة “علّ هذه القصة المؤلمة تذكر زعيم التيار الوطني الحر ومحازبيه اليوم بأن ممالأة سوريا البعث، ليست سبيلاً مشرفاً الى الرئاسة”.
إنني لا أشعر بالاستياء لأنني اعرف العماد عون تمام المعرفة، وإنني لا أثق به وحسب، إنما أدّعي لنفسي أني أكثر العالمين بعدم صحة هذا الاتهام. وأنا جزء من استراتيجيته ومواقفه التاريخية، منذ إعلانها، وفيما قذائف مدفعية الجيش السوري تنهمر على القصر الجمهوري في العام 1989.
ان مشكلتنا مع سوريا هي في لبنان وليست في سوريا، في مواجهة الاتهام المزيف له بأنه يريد إضعاف سوريا إنطلاقاً من لبنان.
كنت أتمنى يا صديقي أن تكون روايتي مشهداً بليغاً في وجدان رفاق الدرب، من دون أن يشوبها شعورهم بالاستياء والاستفزاز. ثم إنني لست مستاء منك شخصياً، لأنني كنت أرى في كتاباتك خلال عهد الوصاية السورية وهو في أوجه، بطولة قل نظيرها، وجرأة تتماهى مع جرأتي ورفاقي، ايام كنا من جمهور قرائك، وسنبقى نحبك ونقدّر اهتمامك بنا، ونحترم صدق اختلافك معنا ومع قائدنا، وإن كنا أحياناً على طرفي نقيض.
أشكر تفهمك، وادعوك الى حوار معمّق عن العلاقات اللبنانية السورية، لنخرج بتقييم للمستقبل لم نجده بعد.
10 أيام من عذابات مناضل عوني في مقر الرملة البيضاء للمخابرات السورية 1
10 أيام من عذابات مناضل عوني في مقر الرملة البيضاء للمخابرات السورية 2