بين المزدوجين هو عنوان لمحاضرة ألقاها المفكر الإيراني الدكتور مصطفى ملكيان قبل أشهر في إيران، طرح خلالها أسئلته وإشكالاته المتعلقة بالشروط اللازمة للحضور الثقافي للقرآن في العصر الحديث، وأوضح بأنه لا دخل له إلى أي مدى تحققت هذه الشروط أو إلى أي مدى لم تتحقق أو إذا لن تستطع هذه الشروط أن تتحقق.
والجدل حول هذا العنوان لا يزال مستمرا في الساحة الثقافية والدينية. وتقف رؤى مختلفة في مقابل بعضها البعض. فهناك رؤية تعتقد بوجوب حضور القرآن في العصر الراهن وفق صورته التاريخية الكاملة بشقيها المادي والمعنوي. فيما ترى أخرى أن الجانب المادي/ الثقافي/ الاجتماعي للقرآن بحاجة إلى تغيير وإصلاح لكي يتوافق مع تغيرات الحياة وأن ذلك كفيل بحماية الجانب المعنوي. في حين تعتقد رؤية ثالثة أن القرآن انتهى مفعوله المادي ولم يبق منه إلا مقاصده المعنوية.
يبدأ ملكيان محاضرته بتقسيم الملتزمين “نظريا وعمليا” بالقرآن إلى فريقين: فريق يشمل الأفراد الذين “ورثوا” الالتزام من آبائهم وأمهاتهم، أي من خلال ما ورثوه من أسرهم مثلما ورثوا ألوان أعينهم أو أشكال وجوههم. وهو الفريق الذي لا يوجّه ملكيان حديثه إليه. أما الفريق الثاني فيشمل الأفراد الذين لا يريدون أن يكونوا ملتزمين نظريا وعمليا بالقرآن التزاما وراثيا من آبائهم وأمهاتهم، إنما يريدون أن يكون التزامهم مبنيا على شروط ثلاثة: أن يكون التزاما “واعيا”، وأن يكون التزاما منطلقا من “إرادة شخصية”، وأن يكون التزاما “استدلاليا”. بمعنى أن التزام الفريق الثاني الذي يركّز ملكيان محور حديثه عليه يستند إلى “الوعي” و”الإرادة الشخصية” و”الاستدلال”، وهو يختلف كلية عن الالتزام المبني على ما ورثه الإنسان المؤمن من أمه وأبيه أو من أسرته. أي أن الالتزام النظري والعملي بالقرآن لدى الفريق الأول يقوم على “الانفعال”، بينما لدى الفريق الثاني فيقوم على “التفاعل”.
هذا الالتزام، القائم على الوعي، والمنطلق من إرادة شخصية، والاستدلالي، أي القائم على التفاعل، يجب، حسب ملكيان، أن يكون مستندا إلى الاعتقاد بـ”حقّانية” القرآن. وعليه، يقسّم ملكيان مفهوم حقّانية القرآن إلى معنيين:
الأول أن القرآن هو “الحق”. والثاني بمعنى أن القرآن “جاء إلينا من الحق” (أي من عند الله). ويعتقد ملكيان بأن كل معنى من المعنيين له “نهج” في الدفاع عن القرآن. فإذا اعتبرنا أن القرآن هو الحق، يجب أن نختار “طريقا استدلاليا” معينا، وإذا قلنا إن القرآن قد جاءنا من الحق فيجب أن نختار “طريقا استدلاليا” مغايرا.
المراد من عبارة “القرآن هو الحق”، حسب ما يسعى ملكيان أن يوضّح، هو أن القرآن يحتوي على “الحقيقة المطلقة”. أما مراده من أن القرآن “جاء إلينا من الحق”، فهو بمعنى أنه “جاء إلينا من عند الله”. وعليه، فأي شيء يأتي إلينا من الحق أو من عند الله في ظل الصفات التي يعتقد المسلمون بأن الله يتصف بها، فإن هذا الشيء سيكون حقا أيضا، أي سيكون حقيقة. وعكس ذلك ليس صحيحا. فأي عبارة نعتبرها حقيقة ليس بالضرورة جاءت إلينا من عند الله، فـ 2+2=4 هي حقيقة لكنها لم تأت إلينا من عند الله. وحقائق الرياضيات هي حقائق لكنها لم تأت إلينا من عند الله.
يعتقد ملكيان بأن المسلم يواجه 3 عواقب إذا اعتقد بأن القرآن قد جاء إلينا من عند الله ثم أراد أن يلتزم نظريا وعمليا بالقرآن بسبب أنه جاء إلينا من عند الله، أي عليه أن ينفّذ 3 مهمات كبيرة:
عليه (أولا) أن يثبت بأن الوحي من الناحية المعرفية له “حُجّية” معرفية. أي يجب أن يثبت بأن الوحي يعكس الواقع، وأنه ليس وهما ولا خيالا، ولا يدخلنا في منطقة الخرافات. بعبارة أخرى، يجب على المسلم أن يثبت بأن الوحي هو أحد منابع المعرفة الذي لابد أن يعرض علينا الواقع لا الأوهام ولا الخيالات ولا الخرافات. هذا هو المقصود بإثبات الحُجّية المعرفية للوحي.
إن التعرّف على عالم الكون وعلى الواقع يتم عن طريق مصادر المعرفة والتي هي ستة مصادر: الإحساس، الاستبطان والتأمل الذاتي، الذاكرة، الحدس، شهادة الآخرين، والاستدلال العقلي. ومن أجل إثبات الحُجّية المعرفية للوحي، يتساءل ملكيان: هل يمكن أن نعتبر الوحي أحد مصادر المعرفة فيضاف إلى المصادر الستة لتصبح سبعة؟ أي هل نستطيع أن نعتبر الوحي حُجّة من الناحية المعرفية، وبالتالي يجب الالتزام بما يصدر عنه؟
ويجيب: لنفترض أن المسلم استطاع أن يثبت بأن الوحي له حُجّية معرفية، والذي لا بد أن يتم عن طريق منهجية العلوم الفلسفية والعقلية، وتوصّل إلى أن الوحي هو أحد مصادر المعرفة، هنا عليه القيام بالمهمة الأخرى (ثانيا) وهي أن يثبت الوثاقة التاريخية للقرآن، بمعنى أنه بعد إثبات الحُجّية المعرفية للوحي، عليه أن يتساءل: هل القرآن هو الوحي؟ أي كيف نستطيع أن نثبت بأن القرآن الذي بين أيدينا هو الوحي وهو المقصود بأنه صاحب حُجّية معرفية؟ إثبات الوثاقة التاريخية للقرآن هو بمعنى أن نثبت أولا بأن ما جاء في القرآن هو كلام النبي محمد وجاء على لسان النبي محمد، ثم أن نثبت ثانيا بأن كلام النبي محمد ليس مجرد كلام عادي بل كلام وحيَوي. هاتان النقطتان يجب إثباتهما تاريخيا.
لإثبات الوثاقة التاريخية للقرآن، يؤكد ملكيان الحاجة إلى الاستعانة بـ”منهجية العلوم التاريخية”. فمثلا لكي نثبت بأن نابليون انهزم في “معركة واترلو” أو لكي نثبت حدوث “الثورة البلشفية” في روسيا في عام 1917 سنحتاج إلى الاستعانة بمنهجية العلوم التاريخية. وكذلك سنحتاج إلى نفس تلك المنهجية لإثبات أن القرآن هو كلام النبي محمد وجاء على لسانه. فيجب أن نثبت الوثاقة التاريخية للقرآن من خلال هذه المنهجية.
يشير ملكيان إلى أن إثبات الوثاقة التاريخية للقرآن عن طريق منهجية العلوم التاريخية هو بمعنى إثبات ثلاثة أمور:
الأول، إثبات أن ما جاء في القرآن قد ورد كلّه على لسان النبي محمد.. (أي عدم وجود زيادة في آيات القرآن).
الثاني، إثبات عدم وجود كلام وحياني للنبي محمد ولم يورد في القرآن.. (أي عدم وجود نقص في آيات القرآن).
الثالث، إثبات عدم استبدال كلمة محل أخرى أو قراءة كلمة بصورة مختلفة عن حقيقتها أثناء التحولات الكتابية للقرآن.
يعتقد ملكيإن بأنه إذا تم إثبات تلك الأمور الثلاثة نكون استطعنا إثبات الوثاقة التاريخية للقرآن. وهنا يفترض ملكيان بأنه إذا استطعنا أن نثبت الحجية المعرفية للوحي، ثم استطعنا أن نثبت الوثاقة التاريخية للقرآن، سنصل إلى تساؤل آخر مهم وهو (ثالثا): كيف نستطيع أن نثبت بأن فهمنا للقرآن يتوافق مع ما كان يريد أن يقوله الله أو مع ما كان يريد أن يقوله نبي الإسلام في القرآن؟ بمعنى، كيف نستطيع أن نثبت بأن فهمنا للقرآن يتوافق مع إرادة الله ومع إرادة نبي الإسلام؟.
يقول ملكيان بأن الفهم الصحيح لكل نص مسموع أو مقروء، هو بمعنى أن يتوافق الفهم مع إرادة صاحب النص، وإذا لم يتحقق ذلك فسنكون أمام معضلة سوء فهم النص، أو أمام معضلة التفسير الخاطئ للنص. لذا يشدّد ملكيان هنا على ضرورة امتلاك الدليل الذي يثبت بأن فهم زيد أو فهم عمر لهذه الآية أو لتلك الآية من آيات القرآن هو فهم يتوافق مع إرادة الله ومع إرادة نبي الإسلام. لذلك، من الأهمية هنا استخدام جميع العلوم المعرفية الحديثة للوصول إلى النتيجة التي تقول بأن فهمنا لآية ما أو لسورة ما من القرآن هو فهم يتوافق مع إرادة الله ومع إرادة النبي. وإذا أجمع ملايين المسلمين، وكان من بينهم جميع رجال الدين، بأنهم يتفقون على فهم معيّن لآية في القرآن، فذلك لن يكون دليلا على أن فهم تلك الآية يتوافق مع إرادة الله ومع إرادة النبي، لأنه من الممكن أن يكون منهج هؤلاء في الفهم ليس صحيحا، فمثلا قد لا يعرفون منهج دراسة الرموز أو لا يعرفون منهج دلالة المعنى أو منهج النقد أو منهج المسح أو منهج علم اللغة أو منهج التفسير (الهرمونوطيقيا) وغيرها من مناهج العلوم المعرفية. لذا “إجماع المسلمين” ليس دليلا على أن الفهم يتوافق مع إرادة الله ومع إرادة نبي الإسلام.
يفترض ملكيان بأنه إذا تم إثبات الحجية المعرفية للوحي وإثبات الوثاقة التاريخية للقرآن وإثبات أن فهم النص القرآني يعكس إرادة الله وإرادة نبي الإسلام، وأن كل ذلك تم انطلاقا من الصفات التي يصف المسلم من خلالها الله وهي أنه “عالم مطلق” و”خير مطلق”، بعد ذلك لن يوجد من حيث الاستدلال أي مجال لعدم الالتزام النظري والعملي بالقرآن.
ثم يعرّج ملكيان إلى الصوب الآخر من النقاش: يقول قائل بأنه لا يريد أن يلتزم بحقانية القرآن انطلاقا من أن “القرآن جاء إلينا من الحق” أو من عند الله، بل يريد أن يلتزم بحقانية القرآن انطلاقا من أن “القرآن هو الحق”، هنا ستختلف طرق إثبات الأدلة عن تلك التي تم إثباتها في الأمر الأول. فالمسلم الآن لا يريد أن يثبت بأن القرآن قد جاء إلينا من الحق أو من عند الله، بل يريد أن يثبت بأن القرآن هو الحق وأن كل شيء موجود في القرآن هو حقيقة. وهنا، حسب ملكيان، لا يحتاج المسلم إلى خوض مراحل الإثبات الثلاث: الحجية المعرفية للوحي، الوثاقة التاريخية للقرآن، الفهم وعلاقته بإرادة الله وإرادة نبي الإسلام. بل يحتاج المسلم إلى إثبات أمور أخرى تدل على أن القرآن هو حق وأن كل ما فيه هو حقيقة.
يدخل ملكيان في الموضوع الثاني مستندا إلى منهجية إثبات حقيقة الكلام وتوافقه مع الواقع. فيقول: إذا قلنا بأن هذا الكتاب حق، سواء كان القرآن أو غيره، فيجب أن يتم إثبات حقيقة كل جملة وكل ادّعاء وُرد في الكتاب، أي يحتاج إلى إثبات توافقه مع الواقع. فكل ادّعاء لابد من إثبات حقيقته. وفي القرآن هناك تقريبا 24 ألف جملة، وغالبية تلك الجُمل مركّبة، وكل جملة مركّبة يجب تحويلها إلى جُمل بسيطة، وكل جملة بسيطة تعكس ادّعاء واحدا، ولتفكيك الجُمل المركّبة في القرآن إلى جُمل بسيطة سنكون أمام 60 ألف جملة تقريبا. وكل جملة من الجمل البسيطة تحتاج إلى إثبات حقيقتها، أي تحتاج إلى إثبات توافقها مع الواقع. هذا أولا.
ثانيا، يقسّم ملكيان الجُمل الموجودة في القرآن إلى 3 أنواع:
جُمل تشرح “الحقائق”.
جُمل تتحدث عن “القيم”.
جُمل تحتوي على “التكاليف”.
ويجب إثبات حقيقة كل نوع بمنهجية مختلفة عن الأخرى.
كذلك، تنقسم الجُمل التي تشرح “الحقائق” إلى: جُمل “تجريبية” ويجب إثبات حقيقتها بمنهجية العلوم التجريبية. وجُمل “تاريخية” ويجب إثبات حقيقتها بمنهجية العلوم التاريخية. وجُمل “فلسفية” ويجب إثبات حقيقتها بمنهجية العلوم العقلية والفلسفية. وجُمل “شهودية” ويجب إثبات حقيقتها بمنهجية العلوم الشهودية (وهي ادّعاءات متعلقة بالعرفان للوصول إلى أعلى المقامات الوجودية، حيث من خلال منهج الكشف والشهود تتم مشاهدة الحقائق الغيبية).
كذلك يطرح ملكيان تقسيما آخر متعلق بالجُمل التي تشرح “الحقائق”، إذ بعضها يخص “ما وراء عالم الطبيعة” وبعضها يخص “عالم ما قبل الحياة وعالم ما بعد الحياة”، وإثبات حقيقة هذين الأمرين وتوافقهما مع الواقع هو من الأمور التي لم تتحقق. وإذا تمّ إثبات حقيقة جملة واحدة من الجُمل الواردة في القرآن أو اثنتين أو ثلاثة أو أكثر، يجب الالتزام بذلك نظريا وعمليا. ثم يشير ملكيان إلى وجود ثلاث مراحل للوصول إلى “قبول” لأي نص، سواء كان هذا النص مسموعا أو مكتوبا، من القرآن أو من غيره. أولا يجب أن “نهتم” بهذا النص، ثانيا وبناء على اهتمامنا فقد “نفهم” هذا النص وقد “لا نفهمه”، وثالثا إذا فهمنا النص فيمكن أن “نقبل” به ويمكن أن “لا نقبل” به.
fakher_alsultan@hotmail.com
*فاخر السلطان كاتب وباحث من الكويت