الحراك اللبناني الأخير هو محاولة لاستعادة سلطة ‘الرأي العام’، إذا لم تنجح الطبقة السياسية مجددا في شرذمته وشيطنته وإفشاله. لكن ما يحصل قد يكون بوادر وعي واعدة.
يقارن ألكسيس دو توكفيل في كتابه الشهير عن الديمقراطية في أميركا بين النظامين الملكي والجمهوري ودور الرأي العام في كليهما. ويلاحظ أن ملك فرنسا سيّد مطلق الصلاحية في نطاق السلطة التنفيذية، والقانون الفرنسي ينزّه شخص الملك من المطاعن. لكن رئيس الولايات المتحدة مسؤول عن قراراته.
ومع ذلك ثمة سلطة حاكمة أرفع مرتبة من الملك والرئيس في الحالتين، وهي سلطة الرأي العام. لم يكن هناك تعريف دقيق في فرنسا لهذه السلطة كما هي الحال في الولايات المتحدة. فهي تحظى باعتراف أقل، كما أن القوانين لا تشير إليها صراحة. لكنها موجودة مع ذلك. يعبر عن هذه السلطة في أميركا بالانتخابات والقرارات. وفي فرنسا يعبر عنها بالثورات. وبذلك يكون القاسم المشترك بين الولايات المتحدة وفرنسا، رغم أوجه الاختلاف بين دستوريهما ونظاميهما، متمثلا بالرأي العام. إنه السلطة المهيمنة في كلا البلدين.
إذا اتخذنا من تعريف توكفيل هذا مدخلا لفهم وضع “الديمقراطية” اللبنانية، خصوصا على ضوء الحراك الحاصل مؤخرا؛ ماذا نجد؟ تبدو “جمهوريتنا” أقرب إلى الملكية الفرنسية، مع خصوصية لبنانية بالطبع.
أعتقد أننا نتفق جميعا على أن الفساد بضاعة عالمية لا ينجو منها أي بلد أو مجتمع. لكن الاختلاف بين بلد ديمقراطي وآخر لا ديمقراطي، يكمن في كيفية معالجتها. محاولة التوريث أيضا موجودة، بوش الأب وبوش الابن وربما بوش الأخ باللوبيينغ والاقتراع. وربما ما زلنا نذكر حادثة محاولة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ترشيح ابنه جان، البالغ من العمر 23 عاما والحائز على الباكالوريا فقط في حينها، لتوريثه رئاسة Epad، وهي مؤسسة عامة تعنى بالإدارة وتوظف المليارات. عدّ الأمر في البداية مزحة، لكنها لم تكن كذلك. ما جعل أعضاء في الحكومة يبدون دهشتهم وملاحظتهم أن هذا عكس ما كان قد أعلنه ساركوزي عندما كان لا يزال مرشحا رئاسيا، من أن “قطع الرأس هو مصير الورثة” عندما تعلق الأمر بآلان جوبيه، رئيس الحكومة الأسبق.
لكن الاستياء الكبير الذي أثارته ترقية الابن، والانتقادات التي تصاعدت في فرنسا والخارج، والضغط والاستنكار الشعبيين لغالبية كبيرة من الفرنسيين، كل ذلك أجبر الرئيس على التراجع. فقد أظهر استطلاع للرأي قبل أسبوع من التراجع عن الترشيح للمنصب، أن ثلثي الفرنسيين تقريبا (64 بالمئة) يعارضون. علّق البعض بأن “مستوى نفاد الصبر في البلاد دفع عائلة ساركوزي إلى التراجع”.
لنقارن مع لبنان، وهو بلد ديمقراطي تعددي، مع ذلك بلغ الأمر بالطبقة السياسية فيه، المنقسمة على بعضها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وولاءاتها المتناقضة، لكن المتضامنة والمتكافلة على اقتسام الجبنة والحصص باسم “الطوائف”؛ حدا غير مسبوق من الاستهتار والفساد المعلن والصفقات المشبوهة والإثراء الصاروخي، دون أدنى “تخوف” من محاسبة الرأي العام.
كيف يمكن ذلك مع وجود مجتمع مدني وصحافة قوية وممارسة قصوى لحرية التعبير؟ ونحن نعلم الدور الرئيسي لحرية الصحافة في مساعدة الرأي العام على لعب دوره في حفظ حقوق المواطنين.
الأمر يعود إلى أنها ديمقراطية تسمح بالاعتراض فقط، لكن المحاسبة والمساءلة ممنوعتان أو الأدق أنهما معطلتان. آلية التعطيل معقدة جدا لكن يمكن تبسيطها واختصارها: حدد الدستور اللبناني التعددية على أساس طائفي، في زمن تاريخي كانت فيه الولاءات الجمعية، مثل الانتماء العائلي والعشائري والديني والمذهبي هي السائدة.
أدّت الممارسة السياسية بارتباطها عضويا بالتطورات الإقليمية المحيطة (احتلال فلسطين، حرب 1967، بروز المقاومة الفلسطينية إلى الثورة الإيرانية)، إضافة إلى تأثير المنظومة العالمية المهيمنة اقتصاديا وسياسيا واستغلال اهتمامها بأمن إسرائيل.
أدّى كل هذا إلى انقسام المجتمع اللبناني عموديا وتم تحويل التعددية السياسية الملحوظة في الدستور إلى محاصصة طائفية يمسك أو يستبد بها، من يهيمن على طائفته بطرق ووسائل مختلفة. ما سمح بتقوية الولاءات العضوية واستغلال المال السياسي، وصولا إلى من يجمع كل ذلك مع السلاح. النتيجة إمساك فئة ضئيلة بمقادير البلاد والعباد منقسمة الولاءات الخارجية لكن متحدة داخليا.
الانقسام السياسي الحاد منذ اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وتعطيل آلية الحكم والهيمنة على القرار، حال دون المحاسبة وشرذم المواطنين وقسّمهم، ما منعهم من الاجتماع على حد أدنى من المطالب من أجل ممارسة واجبهم ودورهم.
ما حصل مؤخرا يبشر ببوادر ولادة المواطن – الفرد، الذي غلّب ولاءه الوطني ومصلحته كمواطن على ولاءاته الأخرى؛ المواطن الذي صار واضحا لديه أن الشرط المركزي للديمقراطية وللنمو الإنساني هو المشاركة.
إنها أهم مقوّمات مؤسسات المجتمع المدني المكون من مجموعة التنظيمات والتشكيلات والهيئات الاجتماعية غير الرسمية. الانخراط في هذه التشكيلات والتنظيمات في نشاطات وأعمال ومشاريع هو وحده ما يسمح بتعزيز التنمية وترسيخ مقومات الوطن والمواطنية؛ كذلك المساهمة في إدارة الشأن العام، ومراقبة السلطة والضغط عليها. هذا ما يجعله وسيطا، أو أحد القنوات، بين المجتمع والسلطة القائمة.
ذلك أن ممارسة مثل هذه الحقوق هي الطريق إلى الديمقراطية وليس العكس، فالديمقراطية ليست معطى بل هي نتيجة لممارسة الحقوق؛ فالحق هو مفهوم مدني حضاري، وهو مفهوم قانوني سياسي ونضالي. فلا وجود لحقوق خارج شرعية القوانين والأنظمة. وليس هناك من حقوق بعيدا عن المواطنية الفاعلة والضامنة للمشاركة في مسارات اتخاذ القرار السياسي والقانوني.
وعى اللبناني – الفرد أخيرا، أن المواطنية تعني الممارسة الكاملة للحقوق والواجبات المدنية والسياسية، ومن ضمنها المشاركة في وضع القوانين والقواعد والنظم التي ترعى هذه الحقوق، ودون أي تمييز عرقي أو طائفي بين جميع البالغين المنتمين إلى الوطن الواحد. ومن هذا المنطلق تعبر عن الإنسان ككائن له دور فاعل في إدارة الشأن العام.
لا ينحصر تعريف المواطنية إذن بالصفة القانونية المتمثلة بالانتماء إلى كيان جغرافي أو سياسي، بل تمتد في جوهرها إلى كونها دورا اجتماعيا يرتكز على المساواة أمام القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وفي عودة إلى مقدمة المقال، حوّل تخلي المواطن عن حقوقه القيادات السياسية إلى “ملوك- أسياد” منزّهين عن المساءلة. الحراك الأخير هو محاولة لاستعادة سلطة “الرأي العام”، إذا لم تنجح الطبقة السياسية مجددا في شرذمته وشيطنته وإفشاله. لكن ما يحصل قد يكون بوادر وعي واعدة.
monafayad@hotmail.com
كاتبة لبنانية
العرب