بعد أن أُلغيت الخلافة الإسلامية في تركيا بتاريخ 3 مارس 1924، رَنَت بعض القوى إليها، ورغبت في ولايتها، وكان من تلك القوى الملك فؤاد. وفى العام التالي نشر القاضي علي عبد الرازق كتابه “الإسلام وأصول الحكم” ليثبت به أن الخلافة ليست من صميم الإسلام، (لا ركناً فيه ولا فرضاً منه) ذلك أن الحكم في الإسلام لم يتحدد بشكل معين. وثارت ثائرة الملك فؤاد وحاشيته، وسحب الأزهر من على عبد الرازق شهادته العلمية، فترتب على ذلك عزله من القضاء.
ومدّت وزارة المعارف (التربية والتعليم حالاً) للدكتور عبد الرزاق السنهوري سنة أخرى إلى بعثته التي كان قد حصل فيها على درجة الدكتوراه في القانون، وذلك ليحصل على دكتوراه أخرى عن الخلافة؛ ظناً منها بأن صدور رسالة من جامعة فرنسية، تؤيد شرعية الخلافة الإسلامية، تعضد مسعى الملك فؤاد في أن يصبح خليفة المسلمين. وبالفعل حصل الدكتور السنهوري على دكتوراه ثانية عن ( الخلافة Le Califat) ونشرت في ليون 1926.
لكن الدراسة العلمية كانت قد فرضت ضوابطها ووضعت أصولها على الرسالة فصدرت في صورة شبة علمية، غير دعائية ولا أيديولوجية، فلم يُسر بها الملك وحاشيته، وظلت في لفائف النسيان، ولم تترجم إلى العربية.
وكنا ونحن طلبة في كلية الحقوق نتسامع عنها ونتوق إلى قراءتها، لكنا لم نجدها في مكتبة كلية الحقوق بالجامعة المصرية (القاهرة حالاً) ولا في مكتبة الجامعة، ولم نعثر عليها قط، كأنما كانت شبحاً اختفى وزال أثره.
في هذه الرسالة، التزم الدكتور السنهوري أو ألزمه أستاذه الفرنسي، قواعد الدراسة الأكاديمية ونظام الكتابة العلمية وأسلوب التفكير الممنهج. وكانت نتيجة ذلك أن تضمنت الرسالة ما يفيد أن نظام الخلافة الإسلامية، كان منذ نشأته نظاماً ناقصاً (والنقص يتراوح بطبيعة الحال بين نسبة كبرى ونسبة صغرى لكنه يشوب الخلافة فلا يجعلها نظاماً كاملاً يمكن تطبيقه دون اكتمال وبغير تصحيح).
في العام 1989 كان الدكتور توفيق الشاوي قد تزوج من إبنة الدكتور السنهوري، فنشر ترجمة عربية (والأصح تعريباً) لكتاب الخلافة للدكتور السنهوري منسوبة إلى إبنته، وفيها ما يفيد أنه كتب المقدمة والتعليقات. وإذ رأيت أن نشر الكتاب الذي كنا نتطلع إلى قراءته، وبتعريب من إبنته وتقديم وتعليق من زوجها الدكتور توفيق الشاوي، أمر يحقق لي رغبة في قراءة الكتاب، فقد سارعت إلى اقتنائه وقراءته، فأصبت بخيبة أمل كبيرة.
أ.. ذلك أن التعريب عمد إلى إغفال الجزء الثاني من الرسالة والذي عرض لتاريخ الخلافة فلم يشمله، بدعوى أن العرب والمسلمين لديهم من المصادر في هذا الشأن ما يغني. وإغفال جزء كامل من رسالة علمية تدخّل في التعريب غير مبرر، وجزم بأن التعريب متقطع غير متكامل، وحجب لأفكار المؤلف، وانتخاب ما يُراد عرضه على القراء. وقد كان هذا البتر خدمةً لأهداف سياسية وأغراض حزبية، تسيء إلى الإسلام وتضر بالوطن وتقوّض الشرعية.
ب.. وقد لجأ التعريب إلى تعبير جوهري في عمل الرسالة المُعربة، وذلك باستبدال لفظ “الحكومة” بلفظ “الخلافة”. وهو بذلك يكون قد جرّد الرسالة حتى من عنوانها، إذ لم يعد المضمون عن الخلافة بل تحول ليكون عن الحكومة.
والحكومة في البلاد الإسلامية متعددة ومحلّية، في حين أن الخلافة واحدة مركزية، والشروط التي تَلزم للخليفة، غير الشروط التي تلزم للحكومة أو للوزير؛ فكيف يجوز الخلط بين منصبين لكل منهما شروط قانونية وشرعية تختلف عن شروط وشرعية الأخرى؟
بمجرد ظهور التعريب لكتاب “الخلافة”، سارعت أقلام جماعات الإسلام السياسي، والمنافقون لهم، والمبتزون منهم، إلى الإشارة إلى هذا الكتاب في نتف مجتزئة، وعبارات مختصرة، يُقصد منها ترويج الكتاب ونشر أفكاره، ولا يقصد بها نقد علمي أو وزن فكري أو بيان للتجزئة أو إشارة للخطأ الجسيم باستبدال لفظ “الحكومة” بلفظ “الخلافة”. وهو عبث يعيبُ التعريبَ تماماً، وما كان ينبغي أن يفوت على المدّاحين وحملة المباخر؛ وفى ذلك ما يدمغ الوسط الثقافي عامة، ومن كتبوا عن التعريب خاصة، بعدم الأمانة وانتفاء الصدقية.
كان التعريب قد صدر تحت عنوان “فقه الخلافة وتطوّرها لكي تصبح عصبة أمم دولية”. وقد حررتُ مقالة بنقدي للتعريب نُشرت في مجلة “أكتوبر” المصرية بتاريخ 11مايو 1989 (العدد رقم 654) بيّنت فيها عوار التعريب وتحريفه، ولم تتضمن المقالة أية لفظ جارح أو عبارة نابية أو قول خارج، بل كانت في حدود النقد المباح. وقد ردّ الدكتور الشاوي على مقالتي بمقالة نشرت في ذات المجلة بتاريخ 24يوليو 1989 (العدد 662) وكان الرد مائعاً غير واضح ولا حاسم.
ظهر كتابي “الخلافة الإسلامية” عام 1990 وقد أضيفت إليه في الجزء الأخير منه مقالتي التي أنفت الإشارة إليها، لاتصالها بموضوع الكتاب، ولعرض وجه النظر المخالفة. وقد كان أحد الصحفيين في زيارة لمحامٍ – محسوب على الإسلاميين، يدعى خطأً أنه يحمل درجة الدكتوراه، وهو يتسم بكثرة التصريحات المتهاترة والمتناقضة – فرأى أمامه كتابي عن الخلافة الإسلامية. وإذ كان الصحفي من المستنيرين فقد فاجأه أن رأى كتابي عند من كان يزوره، فأبدى مشاعر الترحيب والاستحسان لذلك، غير أن المحامي المضيف استنكر هذا منه وعاب الكتاب قولاً بأنه يسئ إلى الإسلام ويقوّضه (والإسلام غير تاريخه وليس محصوراً في نظم حكم، لكنها الأيديولوجيا التي تخالط بين الموضوعات وتمازج بين الاتجاهات).
وربما نتيجة لذلك، فقد قدم الدكتور توفيق الشاوي شكوى ضدي إلى مجلس القضاء الأعلى محرّرة بتاريخ 2مايو 1998 ومقدمة إلى السيد المشكو إليه بتاريخ 21 مايو 1990، وفيها يقرر أنه عمل منذ عام 1946 في الترجمة (التعريب) وهو بذلك يُقرّ أن نسبة التعريب إلى إبنة الدكتور السنهوري وزوجه، كان تغييراً للحقيقة مقصوداً وعمدياً.
أرسل رئيس مجلس القضاء الأعلى الشكوى بمرفقاتها – التي كتبت على أوراق وحافظة خاصة بالمحامى الآنف ذكره – إلى وزارة العدل لعدم اتصالها بعملي القضائي. واتصل بي وزير العدل يحيطني علماً بالشكوى وبأنه قرر حفظها، فطلبت منه إرسالها إلىّ حتى أحصل على صورة منها.
في العام التالي كان قد عُين مستشار آخر رئيساً لمحكمة النقض وبالترتيب على ذلك رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، فأعيد تقديم الشكوى إليه، وقام سيادته – بتحريض من النائب العام آنذاك – برفع الحصانة القضائية عني وإخطار النيابة العامة لتتولى التحقيق معي، لا فيما إذ كان هناك سب أو قذف في حق الدكتور توفيق الشاوي سقط الحق في التقاضي عنه، ما دامت قد انقضت مدة ثلاثة شهور من وقت وقوع الجريمة، ولكن عمّا ورد في كتاب “الخلافة الإسلامية” مخالفاً للإسلام ومناقضاً للشريعة.
اتصل بي زملاء كثيرون يحيطونني علماً برفع الحصانة عني من مجلس القضاء الأعلى ليحقق معي النائب العام – الذي افتعل خصومة معي لأني كنت أحكم في قضايا “أمن الدولة العليا” وفقاً لضميري لا تبعاً لرغبته. اتصلت تليفونياً بزملائي وأصدقائي رؤساء محاكم الإستئناف العليا وأعضاء مجلس القضاء الأعلى، فقرّر لي رئيس محكمة إستئناف الإسكندرية ورئيس محكمة إستئناف طنطا أنهما لم يوافقا على قرار بهذا الشأن، ولم يُعرض في أي جلسة كانا فيها، وأنهما لم يتخلفا عن الحضور في أي جلسة من جلسات مجلس القضاء الأعلى. ذهبت صباح اليوم التالي إلى رئيس محكمة إستئناف القاهرة، وكنا زميلين وصديقين منذ أن كنّا وكيلين للنيابة في الإسكندرية وفى سوهاج؛ سألته إن كان مجلس القضاء الأعلى قد رفع عني الحصانة القضائية ليستجوبني النائب العام، سكت ولم يتكلم، ثم قال لي: حصل. فلما واجهته بأن رئيسي محكمة إستئناف الإسكندرية واستئناف طنطا أنكرا صدور قرار كهذا في حضورهما، وأنهما أضافا أنه لم يغب أي منهما عن أي جلسة من جلسات المجلس أٌرتج عليه وقال لي: إذهب إلى (فلان) رئيس محكمة النقض، فهو في مكتبه. توجّهت على الفور إلى رئيس محكمة النقض فاستشعر الحرج وخشي من نتائج المقابلة فاستدعى المدير الفني لمكتبه (وهو رجل قضاء بدرجة مستشار) فحضر من مكتبه ومعه مستشاريْن من محكمة النقض. وعندما اكتمل المجلس سألته عن حقيقة الأمر، فقال في خجل إنه قد صدر القرار المذكور بالفعل.
قلت له أمام الحضور: سيادتك اقترفت جريمة التزوير في محررات رسمية، لأنك أثبت على خلاف الحقيقة أن القرار صدر بإجماع أعضاء مجلس القضاء الأعلى في حين أن رئيس محكمة إستئناف الإسكندرية ورئيس محكمة إستئناف طنطا لم يوافقا على القرار، ولم يتخلفا عن حضور أي جلسة من جلسات المجلس.
يضاف إلى ذلك أنك حوّلت مجلس القضاء الأعلى إلى أن يكون محكمة تفتيش (Inquisitive Counsel) تفتش عن النوايا وتوجد لنفسها الحق في الحكم على الكتب والكتّاب، وهذا في حد ذاته عمل يرضي خصومي ويوافق إتجاهات الإسلام السياسي. سُقط في يده وظل يتلعثم في الكلام، وتدخل الآخرون – كالعادة – ليهدئوا من غضبتي للحق. فخرجت من الغرفة بعد أن أنذرته أمام الجميع بأني لن أقبل استجوابي في شأن كتاب صدر مني، وسوف أعلن الحقيقة للجميع. اضطر رئيس مجلس القضاء الأعلى إلى سحب الأوراق من النائب العام وإلى توسيط رئيس محكمة إستئناف القاهرة حتى يطلب منى الرضاء بما حدث نتيجة مواجهتي لرئيس مجلس القضاء الأعلى الآنف بيانها.
هذه واقعة مهمة للغاية أعتبر أن كتابتها ونشرها بلاغ للقاضي رئيس محكمة النقض المصرية ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ذلك أن الجرائم فيها واضحة ولم يكن من الممكن الإبلاغ عنها أو التحقيق فيها إلا بعد ثورة 25يناير 2011، فهي لم تسقط ولم تتقادم. والتحقيق فيها هو للصالح العام الذي يدعو إلى أن يقوم القضاء بتقويم سلبياته، على ندرتها. ففي الثوب الناصع البياض تكون للنقطة السوداء ظهور فيها شديد، ينال من نصاعة البياض ومن زهو النقاء.
saidalashmawy@hotmail.com
القاهرة