هل تعاني مراكز الأبحاث، وحتى صانعو السياسات، في فرنسا (والمغرب) من تجاه
إن المظاهرات الشعبية المتواصلة منذ أكتوبر ٢٠١٦ في منطقة « الريف » المغربية ينبغي لها أن تلفت انتباه السلطات، بصورة حاسمة، إلى الواقع الثقافي والهوياتي البربري.
إن البربر هم السكان الأصليون لشمال إفريقيا والصحراء. وقد تعرّضوا، ابتداءً من القرن السابع، إلى ضغوط لم تتوقّف يوماً لأسلمتهم وتعريبهم. وإذا كانت « الأسلَمة » قد أُنجِزَت بحلول القرن ١٣، فإن الوضع اختلفَ على صعيد اللغة والنظام الثقافي حيث أن ثُلثَ سكان المغرب الكبير (أي شمال إفريقيا)، في يومنا، ينطقون باللغة البربرية.
إن المناطق المحرومة من شمال إفريقيا تتمخّض منذ سنوات عن حركات اجتماعية واحتجاجات سياسية ومظاهرات متزايدة الإتساع. والحال، فإن عدداً من هذه المناطق هي مناطق ريفية يغلب الطابع البربري على سكانها وعلى ثقافتها. إن تلك الأقلية الثقافية البربرية، التي تعدّ ٢٥ إلى ٣٠ مليون نسمة، تميّز بصورة واضحة منطقة شمال إفريقيا والصحراء الكبرى و « منطقة الساحل » عن بقية العالم العربي-الإسلامي.
وحالياً، تهز المظاهرات الجوّالة الجنوب التونسي (إقليم « تطوان »)، و « المزاب »، والجنوب الكبير الجزائري، ومنطقة « الريف » الواقعة على المتوسط في المملكة المغربية. وما يجمع بين تلك المناطق، المتباعدة كثيراً في ما بينها، هو الآثار الثقافية البربرية (مع أنها قليلة جداً في الجنوب التونسي). ومنذ ٢٠١١، فإن أحداثاً كثيرة تطال مناطق أو رعايا « بربر» سواءً في شمال إفريقيا أو في أوروبا، حيث تتواجد جاليات بربرية بكثافة.
وكانت تقديرات نُشِرت في سنة ٢٠١٢ قد أفادت أن ما يُسمّى « عرب فرنسا » هم في الواقع بربر ثقافياً (أكثر من ٥٥ بالمئة)، في حين تصل نسبتهم إلى أعلى من ذلك في إسبانيا، وهولندا، وبلجيكا. ومع مرور الوقت، فإن الراية الأمازيغية تُصبح الراية التي تلتف حولها الإحتجاجات الشعبية في بلدان المغرب الكبير.
وفي العام ٢٠١١، فإن حركات « الربيع العربي » التي تمخّضت عنها بلدان المغرب الكبير كانت تخفي « ربيعاً بربرياً ». ففي ليبيا، شارك الناطقون بالبربرية في « جبل نفوسة » بغرب ليبيا في قيادة الثورة ضد القذافي، واستولوا على العاصمة طرابلس بمساعدة الجيش الفرنسي. ولم يُفلح الإسلاميون في طردهم من العاصمة إلا بعد ٣ سنوات. وفي المملكة المغربية، كانت حركة ٢٠ فبراير نشيطة جداً في منطقة « الريف » بصورة خاصة. وفي مدينة « الحُسيمة » قُتِل ٥ أشخاص في أحد البنوك لمناسبة مظاهرات عنيفة. وفي صيف ٢٠١١، وللمرة الأولى في تاريخ تونس الحديث، جرى الإحتفال بـ « البربرية » في المؤتمر الأمازيغي العالمي في « جربة »، بعد سنوات طويلة من الإنكار الشديد في عهد بن علي.
في منطقة « الصحراء »، التحم البربر الطوارق الأزواد مع أخواتهم الجهاديين من « أنصار الدين » لخلق « دولة الشمال » التي كادت تقوّض وجود مالي. وذلك ما سرّع التدخل العسكري الفرنسي، والدولي، في يناير ٢٠١٢.
في اللحظة نفسها، تعرّض النظام الجزائري لتحديات في ٣ مناطق: مناطق الطوارق في الجنوب، التي تعيش علاقات « زبائنية » كثيفة للحؤول دون تأثرها بما يحدث في « مالي » المجاورة؛ و « المزاب »، إلى الشمال، التي تتعرّض لتمرّدات بُنيوية، عنيفة أحياناً، يقوم بها البربر المحليون ضد ما يسمونه « الإستعمار العربي »؛ وأخيراً، في الشمال، منطقة « القبائل »، التي تغلي منذ سنة ٢٠٠١، والتي لم تشارك بالإقتراع أثناء انتخابات ٢٠١٢ النيابية، عملاً بدعوة المقاطعة التي أصدرتها أحزابها. وقد خرجت منطقة « القبائل » لتودّع بتشييع « رئاسي » الزعيم القبائلي التاريخي للإشتراكيين الجزائريين، « حسين آيت أحمد »، الذي شيّعه مليون شخص في قريته!
هل من حاجة للتذكير بأن الأطفال الضائعين للهجرة « الريفية » إلى أوروبا كانوا العمود الفقري للكوماندوس الذي قام بعمليات إرهابية في بروكسيل وباريس، الأمر الذي ستثبته علناً المحاكمات المقبلة التي سترد فيها أماكن ولادة الإرهابيين والعائلات التي ينتمون إليها بمعظمهم؟ محرومين من هويّتهم الثقافية، وتحت وطأة الهجرة والأزمات الإقتصادية (في أوروبا، وبصورة أشدّ في مناطقهم الأصلية)، وبتأثير الدعاة « السلَفيين »، فإن عدداً من هؤلاء الشبّان اعتنقوا التطرّفَ الديني. حقاً أن ذلك يناقض الأطروحة الثقافوية حول البربر الذين كانت الجمهورية الثالثة في فرنسا تعتبرهم علمانيين وجمهوريين- في الحقبة التي كانت فيها فرنسا الإستعمارية تعتبرهم بقايا قابلة للذوبان من البربر القدامى. ولكن هذا التطوّر قابل للتفسير بإنكار الهوية وإنكار الثقافة الذي تعرّض له بربر شمال إفريقيا منذ الإستقلال، أي منذ أن قررت بلدان المغرب الكبير (باستثناء ليبيا) أن تتحوّل إلى دول عروبية وناطقة بالفرنسية.
إن الواقع الثقافي واللغوي البريري بات يُحظى بالإعتراف منذ ١٥ سنة في بلدان المغرب الكبير (ولكن أيضاً في هولندا أو إسبانيا)، ولكن الإعتراف لا يعني أنه تم إيجاد حلول لأي من المشكلات الإجتماعية، والإدارية، والهوياتية المطروحة.
والسؤال المطروح هو: هل بات المسؤولون السياسيون والعلميون يأخذون بالإعتبار الإحباط المأساوي للمحرومين في منطقة المغرب الكبير الذي يعرّض للخطر جيراننا الأقرب في الجنوب (إلى حد تبرير التدخلات العسكرية في إفريقيا منذ سنة ٢٠١١)، والذي يشكّل جزئياً أحد جذور العمليات الإرهابية التي وقعت في فرنسا منذ سنة ٢٠١٥؟ والجواب هو: قطعاً، لا. وذلك، مع أن المحللين الفرنسيين يشعرون بالقلق إزاء تطوّر الاوضاع الإجتماعية والسياسية التي يمكن أن تؤثر في بلدان المغرب الكبير خلال السنوات المقبلة، وخصوصاً في الجزائر. وفي كل أنحاء المغرب الكبير، فالمشاكل الإجتماعية اللامتناهية تؤثر في المناطق الريفية المحرومة، التي يقطنها ملايين من الناطقين باللغة البربرية، وتجد صداها عبر الأسر التي تقطن مدناً منثل أغادير، وفاس، وناضور، والدار البيضاء، ومراكش، والجزائر، وتيزي أوزو، وبطنه، وتمنراسيت، الخ.).
في فرنسا، بتراثها « اليعقوبي »- لغة واحدة، وثقافة واحدة!- حيث أصبحنا منذ القرن ١٩ الإستشراقي ننظر إلى الضفة الجنوبية للمتوسط من منظور الإسلام (لنا العلمانية، ولهم الدين)، فإننا نلبس نظاراتنا العرببية-الإسلامية كلما تعلّق الأمر بمشكلات بلدان الجنوب. وبعد أن أبدت ندمها لأنها « خلقت البربرية » (أي حركة الهوية البربرية)، وهو اتهام خاطئ يوجّهه لنا القوميون العرب في منطقة المغرب الكبير الذي كانوا يحلمون بقيادة شعب ينطق بلغة واحدة، فإن فسماً كبيرا من نُخَبِنا بات مسحوراً بالإسلام السياسي وباللغة العربية.
ومنذ عمليات ٢٠١٥ الإرهابية، تم خلق عدد من وظائف الأبحاث في فرنسا من أجل فهم وتعليم الإسلام، والسلفية، والشريعة الإسلامية، والحضارة العربية، واللغة العربية، والتاريخ العربي، الخ. ولكن الفالج الذي نعاني منه في ما يتعلق بدول المغرب ما زال قائماً. فبعد تصفية معظم وظائف التعليم والأبحاث حول اللغة والحضارة البربرية في منطقة المغرب، فها نحن اليوم نكرّس تلك الوظائف لما يسمى « الشؤون العربية-الإسلامية »!
في الماضي، كانت الإدارات الإستعمارية في شمال إفريقيا والصحراء قد تكيّفت مع محكوميها، فتعلّمت، بدون تمييز، اللغات والثقافات السائدة في المنطقة. أما نحن، وبروحية نظامنا وإيديولوجيتنا، فإننا نرتكب خطأ احتقار شرائح كاملة من ثقافة المغرب الكبير الحالي، تماماً كما نهمل باستعلاء إجرامي الكُرد ومسيحيي الشرق الأوسط. لا يعني ما أقوله أن علينا أن نهمل الواقع الثقافي العربي، أو الإسلام السياس، ولكن الوقائع عنيدة. إن الثقافات، واللغات، والأديان الشعبية في منطقة المغرب الكبير- بما فيها الناطقون بالبربرية- التي تشكل حاضنة وأساس حركات الإحتجاج الدائرة في منطقة المغرب الكبير الآن، من جهة، ومعظم الهجرة المغاربية إلى فرنسا من جهة أخرى، تستحق شيئاً أفضل من تعامينا عن الوقائع.
منذ عشرات السنين، فإن « المتطوعين » الأميركيين في « فرق السلام » التي اخترعها جون كينيدي في سنة ١٩٦١) هم الوحيدون الذين يتعلمون كل لغات وثقافات مناطق المغرب الكبير (باستثناء الجزائر). الأمر الذي تفرضه حاجات « الدولة العظمى » التي تمثّلها أميركا.
في هذه الأثناء، ماذا نعرف عما يدور في مناطق « الريف »، وفي أوساط « الشاوية »، و « الطوارق »، أو في حي « مولنبك » ببروكسيل.
- الكاتب، بيار فيرميرين، هو بروفسور التاريخ المعاصر في جامعة « بانتيون-السوربون، وعضو في معهد العوالم الإفريقية. نُشِر له مؤخراً كتاب « صدمة التخلص من الإستعمار: من حرب الجزائر وحتى الربيع العربي »:
Le choc des décolonisations: de la guerre d’Algérie aux printemps arabes (Ed. Odile Jacob, 2015).