تحليل واقعي، ودقيق، وخصوصاً « من موقع فلسطيني »، لخطة السلام الأميركية، ولحرب غزّة، وما بعدها، وكذلك ما قبل حرب غزّة بكثير.
يقول يزيد صايغ، بدون تردُّد أن « حماس انتحرت في 7 أكتوبر 2023 »، وأن عواقب ذلك اليوم كانت « كارثية على الشعب الفلسطيني ». ولا يتردد في إعلان أن « فتح » نفسها ماتت هي الأخرى قبل ذلك بكثير. وأن مشروع الكفاح المسلح الفسطيني انتهى منذ هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية في أيلول الأسود 1970، أي قبل 55 سنة. ويعتبر أن « الإنتفاضة الثانية »، في أكتوبر 2000، كانت « خطأ استراتيجياً ».
الأفكار التي يطرحها الأكاديمي والباحث الفلسطيني يزيد صايغ ليست خارجة عن المألوف الفلسطيني، ولو أنها ستصدم بعض المعلقين العرب من بعيد!
كثير من الناشطين والمناضلين الفلسطينيين يطرحون أفكاراً مماثلة عن مستقبل غزة، وعن الكفاح المسلّح الذي بات من الماضي. وسبق لـ « الشفاف » أن نشر دراسات للناشط، والمناضل، « هشام دبسي » ركّزت على المفارقة بين تخلي منظمة التحرير عن الكفاح المسلّح مع بقاء « الأدبيات الفلسطينية »، أي البرامج الداخلية للمنظمات الفلسطينية أسيرةَ ماضٍ لم يعد يمثل سوى كارثة على شعب فلسطين ولكن، أيضاً، على الشعوب المجاورة.
وثيقة استسلام « حماس » ستكون مثل خطاب استقالة عبد الناصر في 9 يونيو 1967، مع فارق: أن هزيمة عبد الناصر كانت، في نظر محللين كثيرين، بداية صعود الإسلام السياسي، في حين ستؤذن وثيقة « حماس » بنهاية « الإسلام السياسي » بشقّيه « السُنّي » و « الشيعي »!
مُذهل أن ناطقاً بلسان حماس قال « «من دون التدخل الشخصي للرئيس ترمب لا أعتقد أن الأمور كانت ستصل إلى هذه النقطة لإنهاء الحرب. لذلك، نعم، نحن نشكر الرئيس ترمب على جهوده الشخصية، وتدخله، وضغطه على إسرائيل لوقف هذه المجازر، وسفك الدماء»!
ومثله، نحن أيضاً، نشكر الرئيس ترامب ولكننا لا نختبئ خلف إصبعنا لكي نتناسى أن الرئيس ترامب كان الرئيس الأكثر دعماً لإسرائيل خلال العقود الأخيرة، وأنه « لم يبخل » في تزويدها بكل ما طلبت في الحروب الأخيرة!
بل ونضيف، استطراداً، أن خطة الرئيس ترامب للسلام في غزة جاءت بعد (وليس قبل) الغارة الإسرائيلية على « الدوحة »! و « يُخيًّل لنا » أن قصف الدوحة (بفضل « غض نظر » أميركي)، كان تمهيداً لخطة ترامب للسلام!
في أي حال شُكراً، الرئيس ترامب لأنك أنقذت من تبقّى من شعب غزة من الكارثة التي أوصلها إليها « السِنوار » المُمَوَّل من إيران.. وقطر!
وإذا سمح لنا الناطقون بلسان « حماس » وأنصارها، فإن شعب فلسطين في مخيّمات جنوب لبنان لم يكتم ارتياحه إلى سقوط « احتلال حزب لله لمخيّماته » قبل الضربات القاصمة التي وجّهتها إسرائيل للحزب الإيراني. وهذا ما يُسمّى « سخرية الأقدار »!
بيار عقل
***
الدكتور يزيد صايغ لجريدة “لوموند”: “إذا تم تنفيذ خطة ترامب،
فقد تفلت غزة من السيطرة الإسرائيلية للمرة الأولى منذ عام 1967”
يسلّط الأكاديمي الفلسطيني يزيد صايغ، الباحث في مكتب الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيغي في بيروت، الضوء على الإمكانات التي تحملها «خطة ترامب». كما يتناول أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، التي بلغت ذروتها بعد الهجوم الإرهابي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
سؤال: حرب غزة بحصيلة كارثية للفلسطينيين. خطة ترامب هي المخرج الوحيد الذي يقترحه عليهم المجتمع الدول. ما رأيك بهذا الكلام؟
يزيد صايغ: تقوم هذه الخطة على نشر قوة أمنية دولية في قطاع غزة، ووضع هذا الإقليم تحت وصاية هيئة حوكمة دولية، وإعادة تنشيط اقتصاده عبر انفتاحه على العالم. يرى بعض المراقبين في ذلك عملًا من أعمال الاستسلام، وعودة إلى عهد الانتداب البريطاني. إن تورّط شخصيات مثل توني بلير أو صهر [دونالد] ترامب، جاريد كوشنر، يثير بطبيعة الحال القلق. لكنني أفضل التركيز على الإمكانات التي تحملها هذه الخطة. فإذا طُبقت بالكامل، يمكن أن تصبح غزة منطقة تحت حماية دولية، فضاءً يتحرر من السيطرة الإسرائيلية لأول مرة منذ عام 1967، وتتعامل معه الدول التي تعترف بدولة فلسطين، ليصبح فعليًا أول قاعدة إقليمية لتلك الدولة.
بالطبع، لست متفائلًا. أعتقد أن هذا بالضبط هو السبب الذي سيدفع [رئيس الوزراء بنيامين] نتنياهو وحلفاءه من اليمين المتطرف إلى السعي لمنع تنفيذ هذه الخطة.
المفاوضات حول المرحلة الثانية من الخطة ستكون حاسمة*…
الشيطان يكمن في التفاصيل. ما هي الحكومات، عربية كانت أم غير عربية، التي ستكون مستعدة للمشاركة في القوة الأمنية الدولية؟ وما هو تفويضها؟ هل ستكون قادرة على منع الجيش الإسرائيلي من دخول المناطق التي انسحب منها؟ هل ستمنعه من استخدام المجال الجوي فوق المناطق التي تنتشر فيها؟ هل سيكون لها وصول حر إلى البحر؟ وهل ستتولى السيطرة على الحدود الخارجية مع مصر، بما يضمن حرية تدفق المساعدات، وكذلك التجارة وحركة الأشخاص، كما تنص الخطة صراحةً؟ ربما ليس في الأسبوع الأول، ولكن بعد شهر، أو شهرين، أو ستة أشهر؟
إذا كانت مهمة هذه القوة الدولية مراقبة نزع سلاح حركة حماس، فهل ستنزع السلاح أيضًا من العشائر التي استخدمتها إسرائيل لسرقة المساعدات الإنسانية والطعن في سلطة حماس؟ الإجابات عن هذه الأسئلة ستحدد الطبيعة الحقيقية لهذه القوة: هل ستكون حاميةً للفلسطينيين، أم عدوًا مكلفًا بتمديد السياسات الإسرائيلية، ومن ورائها الأمريكية؟
هل لا يزال لحركة حماس مستقبل في غزة؟
في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أقدمت حركة حماس على الانتحار. ما قامت به في ذلك اليوم، أياً كانت مبرراته أو حساباته، كانت له عواقب كارثية.
فرصتها الوحيدة للبقاء تكمن في التخلي عن الكفاح المسلح والعودة إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة الأولى، أي حركة سياسية ذات توجه اجتماعي محافظ، مثل العديد من الحركات الموجودة في الدول العربية والإسلامية الأخرى.
لكن الخطر طبعًا، هو أنه بعد استعادة إسرائيل لرهائنها، قد تشن هجومًا جديدًا ضد حماس.
ومع ذلك، يبقى هذا خطرًا يجب تحمّله إذا أراد قادة الحركة تجنيب غزة المزيد من الدمار وسفك الدماء.
وربما يتعين على الحركة أيضًا تغيير اسمها، وربما يُمنع بعض أعضائها من المشاركة في الحياة السياسية.
ومع ذلك، تبقى فكرة الحركة، بوصفها تعبيرًا عن قيم اجتماعية محافظة، فكرة لن تختفي تمامًا.
خطة ترامب وتوقع عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة
تتضمن خطة ترامب، على المدى المتوسط، عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة — وهي النظام القائم في الضفة الغربية، الذي يسيطر عليه حزب فتح بزعامة الرئيس محمود عباس. لكن هل وضع فتح أفضل من حماس؟
فتح ميتة هي الأخرى، إنها “جثة تسير على قدميها” منذ زمن طويل.
ففي تسعينيات القرن الماضي، حين كان ياسر عرفات لا يزال زعيمها، فشلت الحركة في الاستفادة من زخم اتفاقات أوسلو (1993) لبناء قاعدة شعبية قادرة على مواجهة الاستيطان الإسرائيلي بطريقة سلمية.
كما فشلت في مدّ الجسور مع المجتمع الإسرائيلي اليهودي لتشكيل منصة مشتركة تضمن أن تؤدي محادثات السلام في كامب ديفيد (يوليو 2000) إلى إقامة دولة فلسطينية.
وكانت آخر مبادرة سياسية اتخذتها «فتح» — وهي إطلاق “الانتفاضة الثانية” في أكتوبر 2000 — خطأً استراتيجيًا.
ثم خسرت «فتح» قطاع غزة لصالح «حماس» عام 2007، ومنذ ذلك الحين أدار محمود عباس ظهره لذلك الإقليم. لم يتمكّن من معالجة الانقسام الداخلي الفلسطيني. وأصبح يعتمد اعتمادًا شديدًا من جهة على أجهزته الأمنية، ومن جهة أخرى على إسرائيل، التي تسيطر على العائدات الضريبية لسلطته. وقد شكّل هجوم 7 أكتوبر المسمار الأخير في نعش الحركة الوطنية الفلسطينية.
هل يُشير الدمار الذي لحق بغزة بعد هجوم 7 أكتوبر إلى نهاية الكفاح المسلح؟
لقد توقف الكفاح المسلح عن أن يكون خيارًا قابلًا للحياة بالنسبة للفلسطينيين منذ سنوات عديدة.
ويمكن القول إن الحركات المسلحة كما كانت تُمارس في ستينيات القرن الماضي انتهت فعليًا مع هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية خلال الحرب الأهلية في الأردن عام 1970. بعد ذلك، اتجهت حركة «فتح» نحو البحث عن حلٍّ تفاوضي يمكّنها من بناء دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل. وكان من المفترض أن تُكرّس اتفاقيات أوسلو لعام 1993 نهاية هذا التحول وتخلي الفلسطينيين نهائيًا عن خيار الكفاح المسلح.
إحدى الأسباب التي جعلت بعض الفصائل الفلسطينية تستمر في اللجوء إلى السلاح هي بالطبع استمرار الاحتلال العسكري الإسرائيلي والتوسع المستمر للمستوطنات في الأراضي المحتلة. هذا الواقع الخانق تمامًا، الذي شاهدته المجتمع الدولي دون أي رد فعل، أدى حتمًا إلى اندلاع أعمال عنف، كما حدث في الانتفاضة الثانية.
ومع ذلك، أعتقد أن تلك الأعمال العنيفة كانت نتائجها عكسية؛ إذ خدمت مصالح اليمين الإسرائيلي، ولم تنجح في تعبئة الشعب الفلسطيني. فبمجرد أن ظهرت الأسلحة، وُضِعت الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني — التي شاركت في المظاهرات الجماهيرية وأعمال العصيان المدني خلال الانتفاضة الأولى — على الهامش.
غير أن اللجوء إلى العنف خدم هدفًا آخر، وهو المنافسة الداخلية. فقد أعادت «حماس» استخدام الاستراتيجية القديمة لـ«فتح»، وهي توظيف الكفاح المسلح كوسيلة لفرض نفسها كقائد وطني. لكن ذلك كان يعني أيضًا أن «حماس»، مثل «فتح»، بدأت تتجه نحو الاعتراف بإسرائيل وقبول حل الدولتين. وقد أوشكت بالفعل على إتمام هذا التحول عندما تبنت في عام 2017 برنامجًا سياسيًا جديدًا أقل تطرفًا من ميثاقها التأسيسي. غير أن المشكلة، بالطبع، أن «حماس» قامت بهذه الخطوة متأخرة جدًا، وفاتها الظرف السياسي في تسعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي كان فيها مثل هذا التغيير سيكون أكثر فاعلية.
*كيف يمكن للحركة الوطنية الفلسطينية أن تنهض من جديد؟
لقد شهدت لأشهر الأخيرة العديد من المبادرات بين الفلسطينيين بهدف جعل منظمة التحرير الفلسطينية أكثر تمثيلاً. لكن هذه الجهود تقتصر في جوهرها على اقتراح إعادة توزيع المقاعد والنفوذ بين الفصائل التي تشكل المنظمة حالياً، مع إضافة حركتي حماس والجهاد الإسلامي إليها. أرى أن كل ذلك لا معنى له كثيراً، لأن هذه الفصائل لم تعد موجودة فعلياً أو مؤثرة على الأرض.
أما إذا نجحت «خطة ترامب» فعلاً في وضع غزة تحت وصاية دولية، فقد يفتح ذلك الباب أمام تجدد الحياة السياسية الفلسطينية وإجراء انتخابات — انتخابات يجب على المجتمع الدولي أن يحرص على أن تشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية أيضاً.
- أدى تدمير غزة إلى بروز حركة تضامن دولية جديدة مع فلسطين. فكيف يمكن للفلسطينيين الاستفادة من هذه المعطيات الجديدة؟
إن مسؤولية حركة التضامن والدول التي اعترفت بدولة فلسطين هي أن تستفيد إلى أقصى حد من كل الفرص التي يمكن أن تنشأ عن خطة ترامب. فإذا تُرك قطاع غزة لمصيره، مدمَّراً ومنكوباً ومُهاناً، مع بعض المساعدات المالية المتفرقة هنا وهناك، فسيكون المستقبل أكثر قتامة مما هو عليه اليوم.
يجب أيضاً على داعمي فلسطين ألا يغفلوا عن الضفة الغربية، حيث قُتل نحو ألف فلسطيني خلال العامين الماضيين على أيدي الجيش والمستوطنين الإسرائيليين. فكما هو الحال في غزة، تسعى إسرائيل إلى تهجير الفلسطينيين، وحشرهم في جيوب سكانية صغيرة، أو طردهم، بهدف ضم هذا الإقليم في نهاية المطاف. ولهذا السبب، يجب ألا تخفّ الضغوط الدولية على إسرائيل.
إن حركة التضامن اليوم في حالة تعبئة، لكن السؤال المطروح هو: هل ستتمكن أكثر من 140 حكومة، كانت قد تبنت في أوائل شهر أيلول/سبتمبر، بمبادرة من باريس والرياض، «إعلان نيويورك» المؤيد لإقامة دولة فلسطينية، من الارتقاء فعلاً إلى مستوى هذه التحديات؟
أجرى المقابلة المراسل « بنجامين بارت ». الأصل بالفرنسية:
« Si le plan Trump est mis en œuvre, Gaza pourrait échapper au contrôle israélien pour la première fois depuis
1967 »
إقرأ أيضاً:
فلسطين وخيار التسوية التاريخية (١): البرنامج الوطني ومسألة الوحدة الوطنية
