مما لا جدال فيه أن أحد أسباب نهوض اليابان ونجاحها في شق طريقها نحو المستقبل بتميز، وتصدرها للدول المتقدمة صناعيا وعلميا واجتماعيا، من بعد هزيمتها المرة في الحرب العالمية الثانية وتجرّعها مآسي أول قنبلتين نوويتين في التاريخ، هو تمسك الفرد والمجتمع الياباني بمنظومة نموذجية من القيم والآداب والأخلاق والإلتزام تشكل في مجموعها عصب الثروة الحقيقية للبلاد وسر نهضتها وقوتها.
وبعبارة أدق صاغ اليابانيون معادلة تقوم على أن الأخلاق، وما يرتبط به من الشهامة والشجاعة والشرف ونكران الذات والإيثار والحفاظ على الهوية الوطنية والتقاليد المتوارثة، شرط من شروط النجاح في الحداثة والحضارة والتقدم والإبداع، وأنه لا تقدم ولا نهضة دون مباديء وقيم أخلاقية مرتبطة بالعمل والتعليم والأسرة والمعيشة والذوق العام.
ومن هنا كانت اليابان إحدى أوائل دول العالم التي فرضت تدريس مادة الأخلاق في مدارسها كمادة إلزامية، وطبقتها على التلميذ الياباني في حياته اليومية، متضمنة تفاصيل كثيرة تتدرج من الأمانة والصدق والعفاف والتعاون إلى طريقة المشي ومستوى الصوت ودرجة الإنحاء عند التحية واختيار مفردات التخاطب السليمة، ومراعاة الذوق العام في اللبس والأكل والتصرف وخلافه.
لكن ما الذي يدعونا اليوم لفتح هذا الملف الذي كتب فيه الكثير وأشبع بحثا من قبل المتخصصين في الظاهرة اليابانية؟
يتعلق الأمر بالإجتماع المقبل لقمة مجموعة السبع المعروفة بـ G 7، التي تضم أكبر إقتصاديات العالم (كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) والتي استضافتها مدينة هيروشيما اليابانية في الفترة من 19 إلى 21 مايو. ففي قمة هذا العام، كان التركيز على مواجهة ما يسمى بـ “الإكراه الاقتصادي”. وهذا العنوان، لئن كان خاصا بموضوع العدالة والتوازن في الاتفاقيات والعقود الإقتصادية ورفض ضغط القوي على الضعيف وتهديده بقبول شرط ما، إلا أن الخشية تكمن في احتمال التوسع في مفهوم الإكراه ليشتمل على الإكراه المعنوي والتمييز، وبما يحقق مآرب غربية متمثلة في إجبار العضو غير الغربي الوحيد في المجموعة (اليابان) على الإنسلاخ عن هويته الثفافية وتقاليده، والإقتداء بشريكاته في مجموعة السبع لجهة سن وتفعيل قوانين خاصة ملزمة تصب في صالح الشواذ والمثليين.
والمعروف أن الحكومة اليابانية تعرضت خلال السنوات القليلة الماضية لضغوط متزايدة من قبل نظيراتها في الغرب بهذا الخصوص، فأقدمت على صياغة سياسات محلية غير ملزمة في مجال الحماية القانونية للمثليات والمثليين والشواذ، لكن المجتمع الياباني لم يتقبل الأمر ولم يرحب به، بدليل أن الوضع على المستوى الوطني العام لم يتغير. ولهذا فإن الأعضاء الغربيين في مجموعة السبع يتهمون اليابان بالتقاعس والتخلف عنهم.
ومن أغرب ما قرأت مؤخرا مقال كتبه “لي بدجيت”، وهو أستاذ لمادة الإقتصاد بجامعة ماساشوسيتس أمهيست الأمريكية وباحث متخصص في شؤون المثليين، وزعم فيه أنه من الضروري لصحة أي اقتصاد، ولاسيما الاقتصاد الياباني، أن يستوعب المثليين ويوفر لهم حقوقهم الكاملة في الحصول على تعليم جيد ومهارات مناسبة ووظائف محترمة ورواتب جيدة، لأن خلاف ذلك يعني إصابة الإقتصاد
والمجتمع بعيوب. ليس هذا فقط، بل راح يضيف قائلا إن إقصاء وتهميش هؤلاء يعني إنخفاضا في رأس المال البشري، وهذا بدوره يؤدي إلى انخفاض الانتاج والقدرة الاقتصادية، ومشيرا في السياق نفسه إلى أن هذا هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل البلدان الأكثر شمولا لأفراد مجتمع المثليين لديها نسبة أعلى من الناتج المحلي الإجمالي للفرد.
ويدعي كاتب المقال أن الدراسات في اليابان (دون أن يشير إلى أي مصدر) أثبتت أن المثليين هناك أكثر عرضة للإصابة بالإكتئاب من غيرهم وأكثر تفكيرا في الإنتحار بستة أضعاف من الآخرين، ويدعي أيضا أن الأبحاث (ومرة أخرى دون الإشارة إلى أي مصدر) دلت على أن علاج هذه الحالات الصحية وحدها يكلف الاقتصاد الياباني سنويا مبلغا يتراوح ما بين 100 مليون ــ 418 مليار ين (750 مليون ــ 3 مليارات دولار أمريكي)، وأن ما يكلف الإقتصاد الياباني سنويا جراء
الاستبعاد من مكان العمل والتعليم غير معروف لفشل الباحثين في تحديده بدقة.
وبعد أن أنهى الكاتب مزاعمه ومرافعته المحمومة عن حقوق من سماهم بالمضطهدين في المجتمع الياباني، راح ينتقد الحزب الحاكم في اليابان (الحزب الليبرالي الديمقراطي) لتقصيره قائلا أن الحزب، على الرغم من إقتراحه قانون تعزيز الفهم، إلا أنه فشل في تمريره كقانون ملزم كي يكون أداة فعالة لوقف التمييز، ومشيرا إلى أن القانون الياباني يجبر المتحولين جنسيا، ممن يرغبون
في إثبات ذلك في وثائقهم، على الإستئناف أمام محكمة الأسرة، حيث يجب عليهم تلبية معايير صارمة وغير معقولة تمنع أناس كثيرين من عيش حياتهم كما يرغبون وتحد من مشاركتهم في الإقتصاد.
أما الحقيقة التي حاول الكاتب إغفالها لغرض ما، فهي عدم وجود أي شكل من أشكال العداء تجاه المثلية الجنسية في ثقافة اليابان ودياناتها الكبرى، إلا أن المجتمع بصفة عامة لا يتقبل الفكرة. ولأن القوانين عادة ما تعكس ظروف المجتمعات البشرية واحتياجاتها، فإن القوانين في اليابان لا تعترف مثلا بزواج المثليين، ولا توفر الحماية القانونية لمنازل إقامتهم، لكنهم لا يتعرضون للإضطهاد
كما حاول الكاتب الإيحاء.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي