تألق المخرج التونسي الفاضل الجعايبي في بيروت، في إطار فعاليات مهرجان الربيع بمسرحيتة “يحيى يعيش” حيث تأتي بالمسرح السياسي من مكان مميز للربيع العربي.
تذكّر المسرحية بما انجزه المسرح التونسي السياسي في السنوات الاخيرة وابان حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، من ظلال نقدية القاها على سلوكيات نظام مخابراتي مقنّع، اعتبر الاول في المنطقة العربية.
حضور كبير رافق العرض في الصالة، التي تقع في الطيونة، على خط تماس مع الضاحية الجنوبية لبيروت وامتداداً له على مستديرة شارع هادي نصرالله نجل زعيم حزب الله حسن نصرالله. امتلأت الصالة حتى آخر كرسي ما عدا كرسي فارغ على المسرح هو للرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة!
مسرحية سيناريو ودراماتورجيا ونص “جليلة بكار” و”الفاضل الجعايبي” الذي تولى الاخراج. عمل يستشرف احلام المسرح التونسي بسقوط بن علي والتصدي لإشكالية السلطة الديكتاتورية والمخابراتية المركزية والسطوة على الحياة الجماعية والفردية للإنسان التونسي وكل أشكال الإرهاب والعنف والتشوّهات والانحرافات الاجتماعية والنفسية التي تؤدي الى الفوضى والجريمة والجنون. العمل مختلف عما قدمه الجعايبي في مسرحياته “التحقيق” و”كوميديا” و”العوادة” و”سهرة خاصة” و”فاميليا” و”عشاق المقهى المهجور” و”جنون” (عمل ضعيف). ويأتي العمل الجديد امتداداً لمسرحيته (خمسون). وقد سجل على الجعايبي كما رفاقه في المسرح الحديث التونسي، المنصف السويسي ومحمد ادريس واخرين في العشر سنوات الاخيرة ، أنهم ابتعدوا عن المعالجات الجدية والمباشرة في المواضيع السياسية، وهربوا الى أماكن أخرى عالجوها بالجماليات الفوضوية والاثارات السينوغرافية والصوتية والترائيات والتهويمات المختلفة (محمد ادريس) وعلى جماليتها.
“يحيى يعيش” تروي حكاية مسؤول سياسي كبير، يشكل إبعاده المباغت حدثاً مدوياً أشبه بالانقلاب العسكري (أصوات الطلقات النارية الصاخبة) يزمع للسفر الى الخارج مع زوجته حتى تهدأ الخواطر والأوضاع. لكنه يفاجأ بمنعه وزوجته من قبل رجال الأمن، ويحجز جواز سفره ويبلغ خبر إيقاف ابنته متهمة باستهلاك المخدرات والمتاجرة بها. ويجد نفسه أخيراً في مستشفى عمومي للمداواة من حروق جلدية من آثار الحريق الذي شبّ في مكتبته وأتى على جميع ما يملكه من وثائق وأوراق وكتب.
عمل جريء يقف على كرسيين وليس كرسي واحد، كرسي الحبيب بورقيبة الفارغ على الخشبة وما جرى من إقصاء للأب الشرعي للجمهورية التونسية وهي ذكرى عالقة بكل تفاصيلها وأشيائها في ذاكرة التونسيين ومن ألفها الى يائها مع وفاة بورقيبة العام 2000. والكرسي الثاني التي قامت على موت بورقيبة سياسياً ونفسياً طوال فترة حكم زين العابدين بن علي في انتظار موته بيولوجياً.
عمل سجالي من النوع الذي لا يظهر شخصية العرض المركزية هل هي “بورقيبة” وما تعرّض له وهو “يحيى يعيش” الحقيقي، أم زين العابدين بن علي الممثل الوهمي على رأس الدولة التونسية وبمواربة ذكية.
أراد الفاضل الجعايبي محاكمة بن علي مستلهماً وقائع كاملة من النظام الفاسد الذي قاد شعبه الى المعاناة والكآبة والإحباط وبالأسود الطويل من أول المسرحية الى آخرها، أسوَد النظام المخابراتي العميق وأسوَد الإحباط على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية كافة.
حقق العمل اختراقاً مهماً للحظات طويلة من النوم والصمت وجهاً لوجه أمام الجمهور وسط نظرات متبادلة تنم عن فهم متبادل لصخب آليات عمل السلطة في نزعة نقدية وحضور مبلور للنص رأيناه اكثر في أعمال المخرج توفيق الجعايبي إزاء الأنظمة الدكتاتورية بوجوهها الشتى من ثورية وانقلابية وغيرها.. والمسرح التونسي مثل غيره كان أسير مجتمع الواقع أسير الاستقطاب السياسي الأحادي وعلى المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية كافة، وعلى مستوى المثقفين والفنانين والإيديولوجيين وعلى مستوى الشعب في المصطلح الواسع للكلمة وليس على المستوى الضيّق. لكن الأمور وعلى مدى سنين لم تؤد الى تلك الصدمة التي تبلورت أخيراً في الحركة الاحتجاجية الاجتماعية التي عبّر عنها الشاب محمد بوعزيزي والذي انخرط بها لاحقاً المجتمع العربي في البحث عن الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
لطالما اضطلع المسرح التونسي بالجرأة على إيصال ما يريده وبلغة فنية وجمالية وبأساليب مسرحية تجريبية وأحياناً بتقديم جماليات وهمية..
مع ذلك العمل يملك قوته التعبيرية واهم ما قدم حتى الان في المسرح السياسي، كجزء مهم من مما يجري من تحولات ومتغيرات ومحمولات جديدة. علماً انه طرات تغيرات مهمة على العمل في النص والنبرة والخيال أثر سقوط بن علي وليس كما كما يزعم الجعايبي وبكار. ثم مع فارق ان العمل، كما قدم في “اوديون” كان يهدف الى وظيفة سياسية اخرى ترضي الذائقة الاستشراقية الغربية، في موضوعات النظم العربية والجماعات الاصولية ونظريات، مثل “الثابت والمتحول” في كتاب الشاعر ادونيس (استحضر في النص)، مع فارق مهم حدث هو إزالة الحدود التي تميز الواقع عن المسرح، الثابت والمتحول، وفي غمرة تحولات جرفت معها كل النظريات السابقة، مع نبرات الناس في الشوارع والميادين والاصوات والاجساد، حيث صارت الشعوب، هي من تصنع نظريتها الى الحرية والاجتماع العام، ولا تنقاد بفعل نظريات جاهزة، يتكور عليها مثقفون ومفكرون…
جمالية العرض ما يطرحه من أسئلة وهواجس وأخطار ولعبة مغامرة وجريئة بين اليقين والحذر، بين الجنون والوعي وتلك التراجيدية الحزينة لكن المجنونة ولكن المفتوحة على رهبة المجهول.
اعتمد الجعايبي على حركة لوحات ومشهدية سوداء وعلى عنف ويأس وعلى جمع شهادات ووثيق وتواريخ والأهم على حركة أجساد مرئية وبتعبيرات درامية، طالعه هذه المرة من جرح تونسي كبير ومن جرح تاريخي كبير وبنص حقيقي قائم على أدوار مختلفة وبوظائف عرض كثيرة وبإيحاء نفسي ثقيل نسبياً بتلك الانفصاحية التي أراد المخرج تعميمها على الناس وكراسيهم!. مشهدية سينوغرافية جميلة وموحية والجعايبي بارع في فن الجماليات تحت إضاءة مختنقة أشبه بطقوس متمردة وبلغة الى شعبيتها تطاول عمق التجربة المسرحية الحديثة التونسية وبذلك الخليط بين الإلقائية والحوارات والأداء والسمات التقليدية في فوران الكلام والردح والجماليات وبالتزام الذهاب الى دلالات كامنة من دون الانزلاق الى حدود الانفصام الحكواتي والانفجار الصاخب في أكثر من مشهد وأكثر من أرض في المستشفى والمنفى والمطار.
الممثلون، وفي مقدمتهم الممثلة القديرة جليلة بكار، أدوا أدوارهم ببراعة وليونة وككتلة صلبة، في أداء قوي وممتع، في الحركة الجماعية أو الفردية أو مسرحة العناصر والجماليته الدرامية.
ytakki@hotmail.com
كاتب لبناني