واللافت الآن في هذه القضية هو ما كشفته من عمق الهوّة القائمة بين المؤسسة العسكرية وبين رأي الشارع الشعبوي الذي يعبّر عن تعاطفه مع الجندي…
أدانت المحكمة العسكرية الإسرائيلية في تل-أبيب الجندي، إلؤور أزارية، بالقتل بعد أن كان قد أطلق النار على الفلسطيني، عبد الفتاح الشريف، الذي كان مرديًّا من قبل أرضًا برصاص جنود آخرين بعد عملية طعن حصلت في الخليل قبل عام تقريبًا.
الحدث الذي حصل في الخليل هو حدث عاديّ لا يختلف عن سائر الأحداث المتعلّقة بوضع الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ منذ خمسة عقود من جهة ووضع النّضال الفلسطيني ضدّ هذا الاحتلال من الجهة الأخرى.
إنّ ما جعل هذا الحدث يأخذ هذا البعد الإعلامي والتغطية الواسعة له هو وجود كاميرا منظّمة ”بتسيلم“ الإسرائيلية، التي توثّق جرائم الاحتلال، في مكان الحدث والتي قامت بتوثيق الحدث ثانية بعد أخرى، ومن ثمّ نشر هذا التوثيق على الملأ. إذ لولا وجود الكاميرا في الموقع، لكان هذا الحدث قد مرّ مثل عشرات الأحداث الأخرى الشبيهة، دون أن ينتبه أحد إليه أو يأخذ هذا البعد الإعلامي.
واللافت الآن في هذه القضية هو ما كشفته من عمق الهوّة القائمة بين المؤسسة العسكرية، بدءًا بوزارة الأمن وقيادة الأركان من جهة، وبين رأي الشارع الشعبوي الذي يعبّر عن تعاطفه مع الجندي الذي أدانته المحكمة العسكرية.
طالما بذلت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية جهودًا في محاولة الظهور أمام الرأي العام العالمي بوصفها مؤسسة منضبطة تعمل وفق معايير القانون الدولي وتقاضي الأفراد الذين يخرقون هذه المعايير، وقد أفلحت في الكثير من الأحيان في إقناع المؤسسات الدولية بعدم خرقها لهذه المعايير.
لقد وقعت القضية الحالية كالصاعقة على رأس المؤسسة العسكرية، وذلك، مثلما أسلفنا، لوجود الكاميرا الموثّقة للحدث لحظة بلحظة. وهكذا وجدت نفسها مضطرّة إلى تقديم الجندي للمحاكمة فوضعت نفسها في مواجهة مع شعبويّة الشارع المتعاطف مع الجنود في جميع الأحوال.
وهكذا، ومع موعد انعقاد المحكمة العسكرية للحكم على الجندي، انتظم مئات من الإسرائيليين، يمكننا أن نطلق عليهم تعبير ”الحشد الشعبي“ الإسرائيلي، أو ”الشبّيحة“ الإسرائيليين، وتظاهروا ضدّ المؤسسة والمحكمة، بل وعبّروا بكلام صريح فيه تهديد لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي بأنّ مصيره سيكون مثل مصير إسحاق رابين، الذي اغتيل في منتصف التسعينات من القرن المنصرم.
ولمّا كانت الشعبويّة هي التي تسيطر في السنوات الأخيرة على الخطاب في الساحة الإسرائيلية، فقد سارع السياسيون إلى احتضان الجندي المُدان طالبين تسريع تقديم طلب للرئاسة الإسرائيلية للعفو عنه. وقد برز من بين هؤلاء بنيامين نتانياهو، لا غيره، وهو رئيس الحكومة منذ سنوات الذي نشر ”بوستًا“ في صفحته على الفيسبوك دعمًا لطلب العفو عن الجندي.
في الحقيقة، رئيس الحكومة الإسرائيلية هو ذاته يُغذّي هذه الحال الشعبويّة منذ سنوات، وذلك بغية تهييج الشارع الإسرائيلي وظهوره كحامي حمى الإسرائيليين مقابل الأعداء بهدف الاستمرار في استقطاب أصوات الناخبين والفوز بمنصب رئاسة الحكومة مرّة تلو أخرى.
ولمّا كان نتانياهو يواجه منذ سنوات تحقيقات بشأن قضايا فساد ورشاوى، وثمّة تحقيقات جديدة بدأت تأخذ طريقها مؤخّرًا، فإنّه يجنح إلى دغدغة العواطف الشعبوية بدعمه طلب العفو عن الجندي، وبذلك يضع نفسه مع هؤلاء الذين يتظاهرون ضدّ المؤسسات القانونية ذاتها، والتي تجري التحقيقات معه ذاته.
بكلمات أخرى، يقوم رئيس الحكومة الإسرائيلية، وزبانيته في الحكومة والكنيست، بشحن الشارع الإسرائيلي ضدّ معارضيه، على غرار أدعياء ”الممانعة“ من الزعامات العربية. فمثلما يتّهم هؤلاء معارضيهم بالـ”إرهاب“ ويدفعون بشبّيحتهم وحشودهم الشعبيّة للفتك بكلّ من يرفع صوته ضدّ فسادهم وجرائمهم، فإنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية وأتباعه يشحنون الـ”شبّيحة“ والـ”حشد الشعبي“ في الشارع ضدّ معارضيهم مُغدقين عليهم صفة الخيانة والتعاون مع العدو.
وهكذا يجد المرء نفسه في هذه المنطقة من العالم أمام ظاهرة اتّحاد الشبّيحة على اختلاف خلفيّاتها، وكأنّ لسان حالها يقول: يا شبّيحة العالم، اتّحدوا!
*
الحياة، 8 يناير 2017