نكتة تداولها الكثير أيام الحرب الباردة عن أن الرئيس الأمريكي مرة حدث الرئيس السوفييتي عن حرية التعبير التي يتمتع بها المواطن الأمريكي مؤكداً أنه، أي المواطن الأمريكي، يستطيع الوقوف أمام البيت الأبيض وينتقد البيت الأبيض ويتكلم كل ما يريده دون خوف…فما كان من الرئيس السوفييتي إلا أن رفع صوته قائلا وكذلك يستطيع أي سوفييتي أن يقف أمام الكريملين وينتقد البيت الأبيض ويشتم البيت الأبيض دون خوف. لا بد أن تكون هذه النكتة قد خطرت على بال عدد غير قليل ممن شاهدوا مهزلة “الاتجاه المعاكس” من فضائية “الجزيرة” بالأمس والتي أرادت أن تناقش علاقة الشباب في المنطقة بقضاياها إذ كان عليها ـ لو كانت فعلا تريد لعب دور واضح من المسألة التي تناقشها ـ أن تعطي النصيب الأكبر من النقاش لواقع الشباب السوري ولماذا علاقته بقضاياه تكاد تكون معدومة، ليس فقط لأن أحد ضيفيها سوري (هذا إن لم نتذكر أن مقدمها أيضاً سوري ولكننا نتوقع منه دوراً حيادياً كإعلامي) بل خاصة لأنها بثت من فوق أرض سورية (منطقة تدمر)، أي من منطقة عرف اسمها في الماضي بتاريخها الغني وبعد حكم آل الأسد وزبانيتهم اقترنت بالمجازر الجماعية للشباب وبسجنها للشباب والذي ربما يكون الأسوأ في العالم. بل ما حصل جاء على العكس تماماً، وبدلا من الكلام عما فصله النظام السوري للشباب فقد انتهت المهزلة الصاخبة دون أن يتطرق الضيف السوري بكلمة واحدة عن واقع الشباب السوري بل وانتهت الحلقة بتوجيه الشكر لمحافظ حمص محمد أياد غزال.
من بين الأساليب الديماغوجية التي درج عليها من يؤدلج ويروج لآل الأسد وزبانيتهم طيلة السنين يبرز الكلام عن المآسي التي تحصل في أماكن أخرى من العالم دون التطرق للمآسي التي يسببونها على أرض سوريا، معتقدين أن إظهارهم هول الحدث في مكان آخر ينجيهم أضواء الكاميرا التي تصبح مسلطة على غيرهم وبالتالي يرغمون العيون أن تذهب إلى مكان آخر بدلا من أن تراقبهم. فلا أسهل على هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر، من نقل خبر عن حقوق الإنسان في مكان ما من العالم وفقاً لما تحدث عنه تقرير منظمة العفو الدولية وتجاهل ما قالته المنظمة نفسها في عين التقرير ـ وفي غيره ـ عن ممارسات نظام القمع والإرهاب في دمشق حيال الشعب السوري، أي يريدون أن يظهروا وكأنهم غير معنيين بشيء أو محصنين من كل شيء وهم الأنسب. هذا الأسلوب المكشوف، والذي لا ينطلي، ولم يغب يوماً عن، أحد، قدم نفسه مرة أخرى بالأمس حين تجاهل عمداً الساحة السورية. في كلمة الحق التي أريد منها باطل، عن الشباب العربي الذي سيتوقف عن التعلق بالإسلام فيما لو حصل على بيت ومرتب شهري من خمسمائة دولار واستطاع أن يعيش بطريقة مختلفة، هناك محاولة لصرف الأعين عن مصيبة الشباب السوري بالتحديد والتي سببها النظام السوري حيث أن الحلقة بثت، كما قلنا، من سوريا فبدلاً من السؤال الملح في شرعيته وأولوية طرحه ماذا عن الشباب في سوريا جاء الكلام عاماً وغاب كلياً الكلام عن سوريا، بل أكثر أن الأمر سيبدو وكأن النظام الحاكم في سوريا يوفر منبراً للصوت المختلف والمعترض على الواقع العربي أو على النظام الرسمي العربي. وهذا، في الحقيقة، يغاير الواقع ويغالطه، فالشباب في سوريا ليسوا بأحسن حال من غيرهم من الشباب العرب والمسؤولية يتحملها من يحكم في دمشق. فلا الحال هو بالأفضل لنسبة تقارب 80 بالمائة من الشباب في سوريا بشروط عيشهم، ولا من زائد القول هنا أن الميل نحو التدين سببه النظام القابع على صدور الناس في دمشق فبناء حوالي 15000 جامع في سوريا (والذي لم تعرف مثيلاً له سوريا يوماً) ما هو إلا توفير منابر لتخصيب الأيديولوجيا الدينية لتستخدم عند الحاجة (كأن يشار إليها لتحرق السفارة الدينماركية مثلا بسبب رسوم أو للقول للعالم اختاروا بيني وبين شعب متدين شبابه نواة هائلة لتفقيس الارهاب) في الوقت الذي تحرّم أجهزة مخابرات بشار الأسد وآصف شوكت وجود منبر خجول للصوت العلماني في سوريا. وهنا يبدو حال النظام السوري أشبه ما يكون بمن دفع شخصاً ليرتكب جريمة ثم وقف يصف الجريمة المرتكبة أو يدينها. وأكثر من ذلك، وهو الأفظع أن تزاوجاً يحصل بين النظام السوري والإسلاميين ليشلون الصوت العلماني (والأمثلة كثيرة ويعرفها السوريون جيداً) وهذا ليس ضمن مجال كلامنا اليوم.
واجبنا كسوريين هو ألا نسمح بأن يمرر ذلك دون توقف أو تعليق صغير منا. فنعود للسؤال لماذا استثناء الشباب السوريين عند الكلام عن الشباب العرب؟ ولمصلحة من؟
ما يفترض مناقشته هو دور طغاة دمشق في تحويل الشباب عن قضايا بلدهم والشواهد ماثلة في كل شيء، بدءا من جبهة حافظ الأسد “الوطنية التقدمية” ـ التي مازالت هي الوسيلة الأفضل في حكم ابنه ـ والتي منع بموجب ميثاقها الشباب، طلابا كانوا أم عسكراً، من ممارسة العمل السياسي، مروراً بكل شيء آخر في الممارسات اليومية لنظام مخابرات الأسد. من يمنع الشباب في سوريا من أبسط حقوق المواطنين في الكلام عن قضايا بلدهم؟ ألم يصل الأمر بمخابرات الأسد حد منع الشباب في سوريا حتى من حق تنظيف شوارع بلدهم وسجن المجموعة التي أرادت أن تنظف طرقات داريا في دمشق؟ من يمنع الشباب من حق العمل في سوريا ويضطرهم إلى الهجرة ما لم يثبتوا ولاءهم لبعث الأسد؟ لماذا يسجن ويشرد وينكل حكام دمشق بالشباب المهتم بقضايا سوريا وقضايا المنطقة؟ ألم تعتقل مخابرات الأسد عام 1982 الشباب المأخوذة بالحماس لمقاومة الإسرائيليين إبان الاجتياح الإسرائيلي وتم تصويرهم أمامياً وجانبياً وعوملوا كمجرمين لأن من يتجرأ على مقاومة الاحتلال في لبنان قد يصل به الأمر يوما أن يشعر أنه حر ويستطيع اتخاذ القرار بمقاومة الحكام نفسهم (أي الاحتلال الداخلي). ألم يدفع ضغط النظام السوري بعض الشباب إلى تفضيل الموت في العراق على الوقوع بيد المخابرات (كما صرح أحد هؤلاء المتسللين للعراق لصحفي مرة)؟
وأخيراً: عندما نرى لاعب “الكحلة” و”الكشتبان” وقد وضع بسطته في جانب من الطريق لينصب على الناس علينا ألا نبرم وجهنا باتجاه آخر ونمشي بل علينا أن نوضح للناس حقيقته كي لا يتجمهروا حوله ويسرحون في لعبته. فالنظام السوري يتفنن في الأساليب من أجل هدف واحد هو النجاة والاستمرار في الحكم والسيطرة على كل شيء سياسياً واقتصادياً. فالنظام لا يقتصر ضبطه للأمور على محاولة اختراق المعارضة هنا وهناك وتمييع صوتها وقضيتها، بل يحاول تمييع عملها عبر هذه الوسيلة أو تلك، إنه يحاول العمل على إعلان أن لا معارضة في سوريا إلا تلك التي يعينها النظام نفسه، وسوريا بخير وكل شيء على خير ما يرام.
لقد تعلم النظام السوري الكثير واكتسب خبرة عالية طيلة سني حكمه في كيفية التعامل مع الأمور. في السبعينات كان وجود كاسيت عليه أغاني مارسيل خليفة أو قصيدة بصوت مظفر النواب بحوزة سوري سبباً كافيا للاعتقال، وتغيرت الأحوال بأن أصبح متاحاً للناس أن تسمع مارسيل خليفة وتراه وهو يغني في دمشق وأصبح مظفر النواب نفسه يعيش في دمشق ورأته الناس أيضا يظهر على التلفزيون السوري.
قبل عدة سنوات كان النظام السوري، عبر صحافته وأبواقه، يتهم قناة الجزيرة بأن مالك نصفها هو “الموساد” الإسرائيلي والآن يبث برنامج لقناة الجزيرة من سوريا ويشكر به محافظ معروف أنه صديق لشبيح دمشق بشار الأسد!!! ماذا تغير؟ ومن تغير؟ النظام السوري مازال على ما كان عليه، ولكنه يلعب … أما القناة فلا نعرف فيما إذا كانت قد تغيرت أم لا! ولكن ربما يأتينا الجواب بشكل أشد وضوحاً فيما لو، على سبيل المثال، استضافت الشخص الغلط ليبتذل الكلام عن موضوع ليس من حقه أن يتكلم عنه، أو أن يكون له أو لمن يعمل لديهم أهدافاً غير معلنة. وهذا ما ستبينه الأسابيع والأشهر القادمة.
saidabugannam@yahoo.com