يثير الحديث الذي نشرته صحيفة “الشرق الاوسط” مع وليد جنبلاط الكثير من الشجون ،إنه يحيلنا على الكلمة المعبّرة التي رثى بها الياس صنبر سمير قصير،حين اعتبر انه لم يسقط بوصفه صحافيا او كاتبا ،وانما لأنه سياسي من نوع مختلف،في وقت اضحت فيه ممارسة السياسة بمفهومها النبيل فعلا من افعال المقاومة.يلخص حديث جنبلاط الالتزام السياسي في هذه المنطقة في جملة واحدة “يا قاتل يامقتول”.هانحن إزاء غابة، وليس هناك لاثوابت ولا مرجعيات ولاقوانين محلية او خارجية،القتل هو الوسيلة الوحيدة لاسكات الآخر، من كمال جنبلاط حتى وليد عيدو، مرورا برياض طه وسليم اللوزي وسمير قصير.وفي الحقيقة كان على جنبلاط ان يصحح جملته حتى تستقيم، ففي ظل اختلال موازين القوى القائم هو “يا مقتول يا مقتول”،ولأنه ليس في يده امكانية ان يصبح “ياقاتل”، فهو ما يلبث يدافع عن نفسه بالكلام، حتى اضحى في العامين الأخيرين أكثر الناطقين فصاحة في ذم النظام السوري،بل أفاض في هجائه وفضح مشاريعه ومخططاته تجاه لبنان ورموزه، التي قررت رفض الوصاية في السنوات الأخيرة ،وصار منذ نهاية سنة 2005 يذهب في المناوشة مع هذا النظام حدا، لم يبلغه أحد من السياسيين السوريين واللبنانيين.
وقف جنبلاط ضد قرار التمديد السوري للرئيس اللبناني اميل لحود،وقدم وزراء “اللقاء الديموقراطي” استقالاتهم احتجاجا على التمديد.كان وليد منسجما مع الموقف الذي اتخذه سنة 1998 ،حين فاتحه الرئيس السوري حافظ أسد بأمر ترشيح لحود للرئاسة. قال يومها:”لا للعسكرة”.وشرح رأيه في تصريحات منشورة :”العسكر يشبهون بعضهم في كل مكان…البزة العسكرية في لبنان أو في تركيا أو العالم العربي، هي نفسها.بزة عسكرية”.وترجم جنبلاط موقفه هذا في المجلس النيابي، حين رفض التصويت لانتخاب لحود.وتميز جنبلاط هنا بوصفه أحد الناخبين الأساسيين في الاستحقاق الرئاسي،ليس بالمعنى الرقمي،إنما بالمعنى السياسي.
وليد جنبلاط رؤيوي، براغماتي،بارع،ذكي،شجاع،قادر على المناورة ،ومع كل تغيراته وتقلباته التي لا يمكن فهمها احيانا يبقى وريث تجربة كمال جنبلاط، أحد أكبر رجالات النهضة السياسية العربية المعاصرة،الذي اغتاله الاسد الأب، لأنه قاوم مشروع الوصاية السورية على لبنان.
لم يصل وليد جنبلاط الى الخط الأحمر، الذي يجعله يشعر بوجود خطرفعلي على حياته من طرف النظام السوري حتى اليوم الذي تم فيه اغتيال رفيق الحريري،لكنه اعتقد في نفس الوقت إن قتل الحريري سيدفع القاتل في دمشق للانكفاء مثقلا بوطأة الجريمة،وسيمنعه من العودة الى مسلسل الدم من جديد،إلا أن اغتيال سمير قصير وجبران تويني، أزالا من رأسه أي وهم حول حدود نهائية لاجرام النظام السوري . والأهم في كل هذا أنه بات مقتنعا بانعدام امكانية التسوية مع هذا النظام ، وإن الاستقرار اللبناني سوف يبقى هشا، طالما ان حدود العلاقات بين سوريا ولبنان،لم ترسم من جديد، وعلى أساس مختلف عن الماضي .
رغم ان وليد جنبلاط استوعب المعادلة الجديدة منذ بداية سنة 2006،إلا انه لم يحسم موقفه على نحو سياسي واضح من الوضع في سوريا ،فهو ساعة يدعو من واشنطن الولايات المتحدة لتقوم باحتلال دمشق لاسقاط النظام،وفي ساعة أخرى يتعامل مع اوساط سورية لاثقل لها ولاقيمة معنوية داخل سورية، ومع انها تشكل جزءا من تاريخ الدم والفساد في لبنان وسوريا، فهو يواصل الثناء عليها ويقدمها بوصفها هي المعارضة السورية،رغم ان عنوان المعارضة الفعلية التي تواجه النظام وتدفع الثمن معروف للقاصي والداني.وعلى حد علمي فإن السيد جنبلاط لم يكلف نفسه، عناء الاتصال بهذه المعارضة والالتقاء بها،بل ان المرء يفهم من خطابه وخطابات اتباعه، ان هناك نوعا من العتب واللوم للمعارضة بدعوى انها مقصرة في الدفاع عن القضية اللبنانية!وهناك لهجة مستترة في بعض الكتابات والخطابات يفهم منها، انه كان يكفي ان يختلف جنبلاط وسعد الحريري مع بشار الاسد، حتى يصبحا أصدق حلفاء المعارضة السورية.
وأجد من الضروري في هذه المناسبة تذكير الاشقاء اللبنانيين ان المعارضة السورية ليست نائمة،فهي اذا لم تلب نداء سعد الحريري فهذا لايعني انها غير موجودة،فلا احد يستطيع ان ينكر ان رياض الترك ما انفك يقود مواجهة جذرية مع النظام السوري،ولم توهن عزيمته الشيخوخة التي ابتلع سجن المزة سنوات طويلة منها،بينما هو يدافع عن احساسه السليم بالعدالة، وحق سوريا في الخلاص من الديكتاتورية، والاستبداد المزمن، والفساد، وحكم اجهزة المخابرات.
بقي هذا الرجل متألقا وحاضرا،يقدم المبادرة تلو الأخرى لشق طريق السوريين واللبنانيين نحو الخلاص من حكم المافيات الطائفية،ولست بحاجة للتذكير بأنه كان الوحيد، الذي وقف بشجاعة منذ اكثر من سنة ونصف السنة ليشخص المرض السوري،ويحدد الحل الوحيد لخروج سوريا من حال العطالة الشاملة،في رحيل بشار الأسد.وأرى ان ذلك لاينم عن شجاعة نادرة فحسب،بل هو كلمة فصل بيننا وبين الذين يرون أن المعارضة السورية مقصرة عن أداء دورها وواجبها .
يعرف السيد جنبلاط ان المعارضة السورية ، في الداخل والخارج باقية على قيد الحياة، ولم تنحن رغم كلفة الاستبداد الباهظة،واذا كانت تحظى باحترام وتقدير كبيرين، فليس لأنها قادرة على اسقاط النظام غدا،بل لأنها ماتزال تواجه بامكاناتها المتاحة والذاتية،وهي لم تكن تنتظر منه ولا من غيره من حلفاء النظام السوري بالأمس القريب،سوى أن يغيروا نظرتهم للوضع في سوريا،ويعيدوا قراءة الموقف في صورة مختلفة.و لعل جنبلاط مثلنا يعرف ان حركة 14 آذار/مارس لم تخط خطوة واحدة في هذا الاتجاه حتى اليوم،وظلت ترى الوضع على نحو مقلوب منذ اغتيال الحريري،وفي حين كانت المعارضة السورية تقول لهم ان قضيتنا واحدة في دمشق وبيروت،ولن تحل إلا برحيل النظام،كانت اركان 14 آذار تظن بأن المعارضة السورية تريد توريطها في مواجهة مع النظام،ناهيك عن الحسابات السعودية التي جعلت سقف سعد الحريري بوصفه قائد 14 آذار، يقف عند المحكمة الدولية، ويعتبرها نهاية المطاف .ولسنا في حاجة لتذكير جنبلاط بكم التصريحات التي صدرت عن رموز 14 آذار، والتي تعتبر ان حل مشكلة لبنان تنتهي عند خروج القوات السورية،وكان هناك استعداد لعقد تسوية مع هذا النظام تقف عند ذلك الحد،وقد استمر نهج التسوية هذا حتى اليوم،لأنه من انتاج عقلية مسترخية تؤمن بامكانية التوصل الى “لوكربي سورية”، تزيل القشرة السورية،وتبقي على الجوهر،مقابل ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان،وبقاء كل طرف في مزرعته.لكن النظام السوري الذي ينشد الديمومة بوحي من نزعة السطو، خيّب كل هذه الظنون،بعد أن عاد ليلعب بفنية عالية على المستوى الاقليمي، من نهر البارد الى بغداد وغزة،لاسيما وأنه اطمأن إلى عدم وجود أحد يستطيع وضع حد لعربدته، لا في الداخل ولا في الخارج.
لست في وارد إعطاء درس لأحد ،فالألم اللبناني يستحق منا في هذه اللحظة أن نرتفع جميعا إلى مستواه،ولكن هناك ضرورة للتوقف امام حديث جنبلاط إلى صحيفة “الشرق الأوسط”،وخصوصا إشارته إلى مسألة “التعامل مع المعارضة السورية بشكل جدي، كي يشعر الاسد بالخوف”.
تستحق هذه الصحوة المتأخره وقفة خاصة من الطرفين،ولكن طالما ان جنبلاط سبق البقية لاثارة هذه النقطة،فإن المبادرة يجب أن تأتي من طرفه أولا ،وهو مدعو لمراجعة نفسه ومواقفه من المعارضة السورية،ويجدر به أن يطرح اليوم رؤيته الفعلية وتصور فريق 14 آذار للتغيير في سوريا،لكي لا تبقى المواقف اللبنانية محصورة في باب الحماسة، التي ترتفع وتيرتها كلما تم اغتيال شخصية لبنانية،ولكي لايستمر سوء فهم البعض بأن المعارضة السورية مقصّرة عن دعم حق اللبنانيين في الخلاص من الوصاية السورية، وممارسة استقلالهم التام بعيدا عن التدخلات والضغوط السورية.ولكن ما يخشاه المرء مرة أخرى هو ان يكون جنبلاط قصد بالمعارضة السوريةاولئك النائمين على حرير المحكمة الدولية لتعيدهم ليحكموا دمشق من جديد.
* كاتب سوري-باريس