«أصبح الموت هو العادي، وكل ما عداه استثناء»..
صورة مؤلمة، بشعة، مخزية لا تكاد تفارقني. شاحنة تقف بشموخ على كتف طريق نمسوي أخضر. لا أحد في الخارج. سكون مريب.. والكون ينصت صاغراً لأصوات نحيب.
قبضات تطرق جدران الشاحنة، ولكن ليس هناك من يسمع. في الداخل صراخ وعويل يتحول بعد ساعات إلى نشيج، ثم تبدأ الأصوات بالسكون رويداً رويداً. شاب يلتقط هاتفه النقال ليسجّل آخر رسالة اعتذار لأمه التي لم يخبرها بأنه رحل، خوفاً عليها من الخوف عليه. رجل يصور فيديو لنفسه يودع فيه زوجته وأبناءه الذين تركهم في الضيعة قبل أن يتخذ قراره بالرحيل، كي يؤمّن لهم مستقبلاً أفضل. مراهق يكتب آخر رسالة حب لحبيبته، آملاً ممن يجد هاتفه أن يوصلها إليها. وهناك في الزاوية، أم تضم ابنتها ذات السنتين إلى صدرها وهي تستجدي النفس. تضعف الصغيرة، تسكن حركتها، تحاول الأم أن تنفخ في فم ابنتها قليلاً من الأكسجين لعله يؤجل موت طفلتها قليلاً.
ولكن الموت لا ينتظر أحداً.. يتحول «البراد» إلى تابوت كبير، يبتلع أرواح واحد وسبعين شخصاً، ببطء بشع. يسحب الروح من أجسادهم بشماتة قاتل محترف. يتركهم جثثاً متعفنة.. ويرحل.
لما يقارب السنوات الخمس والسوريون يموتون حرقاً، قصفاً، تعذيباً، قصفاً، غرقاً وخنقاًَ، بينما يتذابح النظام والمعارضة على الكرسي، الثروة، المناصب والمناطق المختلفة ليسجّلاها باسميهما. يهرب السوريون من براميل وصواريخ النظام وقذائف المعارضة، وسكاكين «داعش» و«النصرة»، يهربون من موت إلى موت آخر، ربما أكثر ألماً وأبشع.
البعض يسأل: لماذا يصر اللاجئون على الوصول إلى أوروبا؟ لماذا لا يبقون في دول الجوار؟ الجواب بسيط، وإن كان يحز في النفس، في الدول العربية، سيبقى اللاجئ لاجئاً، بيته خيمة في أحسن تقدير، ليس له كيان ولا حتى أوراق ثبوتية. يعيش على هامش الحياة، يزدرد الذل والمهانة معتمداً على إعانات اللجان الخيرية إن وصلت، أو يرسل أولاده إلى الطرقات لبيع الورد أو التسوّل.
في أوروبا، إن استطاع اللاجئ اجتياز الحدود، البحر، الأسلاك الشائكة، حيل عصابات التهريب ومافيات الاتجار بالبشر، إن استطاع ووصل إلى دولة أوروبية، فسيحصل على تصريح إقامة ومسكن وملبس ومأكل، ومدارس لأولاده، رعاية صحية، ومعونة مالية أيضاً. ولكن الأهم من ذلك كله، سيعامل اللاجئ كإنسان له كرامة ويمنح حقه في «الحرية».
قام العرب ولم يقعدوا، مطالبين العالم باحترام آدمية اللاجئين، وتقديم المساعدات لهم وفتح الحدود الأوروبية. السؤال الملح هنا: لماذا لا تفتح الدول العربية و«المسلمة» تحديداً أبوابها لهؤلاء المساكين؟ أين شيوخ الدين من هؤلاء؟ أين أصواتهم التي كانت تنادي بالجهاد؟ أليست إغاثة المسلم للمسلم جهاداً؟!
بدلاً من عقد المؤتمرات التي تكلف الملايين، وبدلاً من إرسال البلايين التي لا يعرف أحد أين ذهبت، دعوهم يدخلوا بلدانكم، اكسبوا إنسانيتكم وأخلاقكم وحق المسلم على المسلم. احموهم من الموت الذي أصبح خيارهم الوحيد.
dalaaalmoufti@