عشية مؤتمر جنيف -2 الذي سيحاول النظام السوري استغلاله الى أبعد حدود بدعم ايراني وروسي، يثير تصرّف قسم من شخصيات المعارضة السورية علامات استفهام. تزداد علامات الاستفهام في ظلّ الحملات المتبادلة بين المجموعات التي تتألّف منها تلك المعارضة.
أكثر من علامات الاستفهام، هناك ما يثير الاشمئزاز، لا لشيء سوى لأنّه يفترض في المعارضة السورية في الخارج أن تكون الواجهة التي تعكس صورة عن ثورة حقيقية لشعب مقاوم. انّه شعب يسعى الى استعادة كرامته بعد نصف قرن من حياة أقرب الى الذلّ من أيّ شيء آخر.
من يراقب، ولو من بعيد، الاجتماعات التي تعقدها المعارضة في اسطنبول أو غيرها من المدن، يصاب بخيبة. يتولّد لديه شعور بأنّ الشعب السوري لا يمكن أن ينتصر يوما على نظام حرمه من أبسط حقوقه وكرّس جهوده من أجل تعميق الشرخ الطائفي والمذهبي في بلد كان مفروضا أن يكون من أفضل دول المنطقة، على كلّ صعيد.
تبدو مأساة المعارضة السورية واقعا لا يمكن الهرب منه. هل مطلوب الاستسلام لهذا الواقع والقبول ببقاء النظام العائلي- البعثي الذي ليس في واقع الحال سوى مافيا عائلية تحكم بلدا عن طريق الاجهزة الامنية؟
من حسن الحظ أن المعارضة شيء والثورة التي يخوضها الشعب السوري شيء آخر. قد تنتصر هذه الثورة كما قد لا تنتصر نظرا الى أن الكيان السوري مهدّد بالتفتيت. الاّ أنّ ثمة ملاحظات عدّة يمكن أن تساق على هامش الشتائم التي يتبادلها بعض المعارضين في ما بينهم.
قبل كلّ شيء، لم ينشأ المعارضون في بيئة ديموقراطية تسمح لهم بالاخذ والردّ بشكل حضاري. هناك معارضون عاشوا في الخارج أسرى أوهام تتعلّق بسوريا بصفة كونها قلب العروبة النابض. هؤلاء يرفضون أساسا الاعتراف بوجود مشكلة طائفية ومذهبية في سوريا. يرفضون أي مقارنة مع لبنان. أحدهم سارع الى اعتبار تلك المقارنة اهانة له. لدى هؤلاء المعارضين فكرة خاطئة عن سوريا لا علاقة لها من قريب أو بعيد بنظام قام منذ البداية على الطائفية والمذهبية، خصوصا منذ الانقلاب العسكري في العام 1966 وهو انقلاب لعب الدور المحوري فيهم الضباط العلويون.
زرع هذا الانقلاب بذور الطائفية والمذهبية في سوريا. قبل انقلاب 1966، كانت الطريقة التي قمعت بها الانتفاضة الاولى لحماة في العام 1964 مقدّمة لما ستتعرّض له المدينة من مجازر في 1982. بين الثامن من آذار- مارس 1963 والثالث والعشرين من شباط- فبراير 1966، استخدم الضباط العلويون شعارات البعث ومدنييه والضباط السنّة والدروز والاسماعيليين والشركس للانتهاء من حماة التي كانت ترمز الى رفض المدن السورية الكبرى، على رأسها دمشق وحلب وحمص، المشروع الذي يسعى الى تحقيقه هؤلاء الضباط.
شيئا فشيئا، تحولّت سوريا الى سجن كبير. شيئا فشيئا، خصوصا منذ العام 1970 حين تفرّد حافظ الاسد بالسلطة، صارت الطائفة الحزب الحاكم. لم يعد البعث سوى غطاء لها. لا يمكن الاّ الاعتراف بأن حافظ الاسد كان يمتلك عقلا فريدا من نوعه. استطاع الاستفادة الى أبعد حدود من عدائه للنظام البعثي الآخر في العراق الذي صار على رأسه صدّام حسين منذ العام 1979 ومن عداء هذا النظام له. عرف جيّدا كيف يقيم توازنا اقليميا يجعل من سوريا دولة مهمّة على كلّ صعيد.
فضلا عن ذلك، استطاع الاسد الأب اقامة تحالف من نوع جديد بين العلويين وسنّة الارياف والاقلّيات. حاول نقل هذه التجربة الى لبنان الذي استخدم المسلحين الفلسطينيين للسيطرة عليه وتدمير مؤسساته. ولمّا واجه مقاومة بدأ الاغتيالات التي طالت في البداية كمال جنبلاط وصولا الى الرئيس رينيه معوّض مرورا بالرئيس بشير الجميّل والمفتي حسن خالد. عدد المجازر التي ارتكبها النظام السوري في لبنان لا يحصى…
ألغى حافظ الاسد الحياة السياسية في سوريا. حاول عمل الشيء نفسه في لبنان من منطلق طائفي ومذهبي أيضا. لذلك، كان تركيزه دائما على تدمير الشخصيات والرموز السنّية المنتمية الى المدن الكبرى وعلى التخلّص من اي شخصية مسيحية تستطيع لعب دور على الصعيد الوطني.
لا يمكن لوم بعض شخصيات المعارضة السورية التي عاش أفرادها في هذا السجن الكبير على تصرّفاتهم. لا يمكن حتى لوم الذين ذهبوا الى الخارج وأقاموا في باريس وغير باريس وهم لا يريدون الاعتراف بما يجري على الارض السورية. نعم، سوريا تغيّرت جذريا منذ ما قبل العام 1970 وتغيّرت نحو الاسوأ مع خلافة بشّار الاسد لوالده، خصوصا بعد اختزال الطائفة بالعائلة وبعد الذهاب بعيدا في لعبة التحالف مع ايران، بامتداداتها اللبنانية، من منطلق مذهبي بحت.
لم تكن لدى بشّار المعرفة الكافية بالارض السورية. لم يدرك أهمّية سنّة الارياف والمدن الهامشية من أمثال حكمت الشهابي ومصطفى طلاس وعبدالحليم خدّام وفاروق الشرع وكثيرين غيرهم. كان والده يستعين بهؤلاء لتأكيد أن هناك بديلا من سنّة المدن الكبيرة.
ولذلك، سقط نظام بشّار الاسد في اليوم الذي ثار فيه أولاد درعا، عاصمة حوران، وكتبوا شعار “الشعب يريد اسقاط النظام” على حائط المدرسة.
من يتوقع تصرّفات مختلفة تصدر عن شخصيات سورية معارضة تجتمع في الخارج بعدما أمضت حياتها في البلد- السجن، انّما يراهن على سراب. طريقة تصرّف بعض هذه الشخصيات أكثر من طبيعية.
ما ليس طبيعيا هو ذلك الصمود للشعب السوري، وهو صمود يعبّر عنه يوميا بأشكال محتلفة. لعلّ أفضل تعبير عن هذا الصمود في هذه الايّام التصدي لـ”داعش” التي ليست سوى تنظيم متطرّف يحظى بدعم النظام. لماذا يدعم النظام “داعش”؟ لسبب في غاية البساطة يتمثّل في أنه يريد أن يكون الشعب السوري كلّه على شاكلة “داعش” لتبرير المجازر التي يرتكبها.
هذه لعبة قديمة تجاوزها الزمن. الشعب السوري كشف اللعبة وعمل على احباطها. اما المعارضة التي لم تستطع يوما الارتقاء الى مستوى الثورة فهي لا تزال في حاجة الى وقت طويل كي تتذكّر أنها صارت خارج السجن السوري الكبير وأنّ الشتائم المتبادلة والتخوين لا يمكن أن تكون جزءا من ثورة شعب يعرف تماما من هو عدوّه وأن طريق الخلاص يمرّ بالتخلّص من هذا العدوّ أوّلا…