بدأ الصِّـراع في ليبيا ينتقِـل من مسرح المعارك إلى حلَـبَـة المفاوضات السياسية، مع قبول العقيد معمر القذافي مُـباشرة أو مداوَرة بالتنحّـي عن الحُـكم.
وعرض مبعوثون للقذافي تولِّـيَ نجْـله سيف الإسلام أو وزير خارجيته المنشَـق موسى كوسة، إدارة فتْـرة انتقالية تقود إلى إجراء انتخابات حرّة، تُفضي إلى إقامة نظام ديمقراطي في ليبيا بعد سلسلة إصلاحات جوهرية تُقوض النظام الجماهيري، الذي أقامه العقيد القذافي قبل اثنين وأربعين عاما.
ورجَّـحت مصادر مطَّـلعة أن يكون هذا المشروع الإنتقالي هو الرسالة التي نقَـلها موفد القذافي عبد العاطي العبيدي إلى كل من اليونان وتركيا، غير أن نجاح هذه الصيغة يتوقّـف على موافقة المجلس الوطني الإنتقالي عليها.
في الأثناء، قال مسؤولون اتراك يسعون للتوصل لوقف اطلاق النار في القتال الدائر في ليبيا يوم الثلاثاء 5 أبريل 2011 إنه لا تلوح في الأفق انفراجة للخلاف بين طرفي الصراع بشأن بقاء أو رحيل الزعيم الليبي معمر القذافي.
والتقى وزير الخارجية التركي أحمد داود اوغلو مع مبعوث من حكومة القذافي يوم الاثنين 4 أبريل لاجراء محادثات بشان شروط عامة لوقف إطلاق النار وإيجاد حل سياسي للصراع الليبي. ومن المتوقع أن يزور وفد من المعارضة انقرة في الأيام المقبلة لإجراء محادثات مماثلة. وقال مسؤول بوزارة الخارجية التركية “موقف الجانبين متصلب… يصر طرف – المعارضة – على رحيل القذافي ويقول الطرف الآخر أن القذافي يجب أن يبقى. لذا لم تحدث انفراجة بعد”.
القذافي ليس جزءا من الحلّ
ومالَ بعضُ المحلِّـلين إلى احتمال أن يُمسِـك الثوار باليَـد الممدودة لهُـم، بسبب الضغط العسكري الذي تُـمارسه كتائب القذافي على قواتهم، التي تفتقِـر إلى التدريب والعَـتاد الحديث. لكن قادة المجلس الوطني الانتقالي سارعوا إلى رفْـض العرض الآتي من حُـكم محشور في الزاوية، إذ أعلن كلٌّ من الوجه البارز في المجلس محمود شمام والأمين العام للمجلس عبد الحفيظ غوقة، أن كل الحلول التي لا تستنِـد على رحيل القذافي وأبنائه، مرفوضة تماما.
وأكَّـد غوقة وشمام أن القذافي، الذي هو أصل الأزمة ومِـحورها، لا يمكن أن يكون جزءا من الحلّ السياسي. وذهب محمود شمام، الذي عارض القذافي منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلى حدِّ التذكير بأن الثوار لم يطلبوا من التّـحالف أن يقصف مواقع القذافي، “بل طلبنا فقط تسليحا لقوات الثوار ولم يتجاوبوا معنا”.
والعُـنصر الجديد في هذا الانعطاف السياسي، هو الدور الذي تسعى تركيا لأنْ تلعبه في حَـلحَـلة الأزمة، بمُـحاولة التوسُّـط بين القذافي والثوار، وهو ما يكرِّس الغِـياب الأمريكي، على الأقل ظاهريا، عن التجاذبات التي قد تسبق الوصول إلى تسوية سِـلمية للصِّـراع.
كما أن بروز الدّور التركي يُهمّـش فرنسا، التي حاول رئيسها نيكولا ساركوزي تحقيق سبق على الأمريكيين في ليبيا، اتِّـعاظا بدروس الحرب في العراق، فكان أول من اعترف بالمجلس الوطني الانتقالي وقطع العلاقات مع القذافي ونظامه، بل وأبدى عَـلَـنا استِـعداده لتسليح الثوار. بهذا المعنى، تبدو تركيا شاطِـرة باستثمار موقِـعها الفريد، بوصفها مالكة لثلاث أوراق حاسِـمة لم تجتمع لسواها، بكونها عُـضو في الحلف الأطلسي وعلى علاقة جيِّـدة مع القذافي، بالإضافة لمحافظتها، وإن بدرجة أقل على جسور مستمرة مع المجلس الوطني الانتقالي.
هكذا يسعى الأتراك لملءِ الفراغ، ليس فقط بإرسال الباخِـرة التي نقلت الجَـرحى من مصراتة لعلاجهم في تركيا، وإنما بتحريك خُـيوط الحِـوار غير المباشر بين الطرفيْـن المتصارعيْـن. ففيما وصل موفد القذافي عبد العاطي العبيدي إلى أنقرة، تردّد أن محمود جبريل، أحد أركان المجلس الوطني الانتقالي يوجد في تركيا، فيما أجرى وزير خارجية الثوار علي العيساوي محادثات مع كِـبار المسؤولين في روما.
انكفاء أمريكي
وعزا قِـياديون في المعارضة الليبية الانكفاء الأمريكي عن لعب دور عسكري في الخط الأول، ضِـمن مهمّـة الحلف الأطلسي، وكذلك تحاشي القيام بدور سياسي في مقدِّمة المسرح، لإيجاد تسوية سياسية للصراع، إلى المخاوف مِـن تنامي نفوذ “القاعدة” وجماعات متشدِّدة أخرى في خِـضمّ المعارك الدائرة حاليا في ليبيا بين الثوار وكتائب القذافي.
وكشف القيادي الليبي الدكتور علي الصلابي لـ swissinfo.ch أن “عناصر سلفية متشدِّدة جاءت إلى ليبيا في أعقاب اندِلاع الثورة لتأييدها، قائلين أن هذه أرض جِـهاد، غير أن الثوار شكروا لهم سعْـيهم وأكَّـدوا لهم أن لديهم ما يكفي من المقاتلين، فانصرفوا”. وأبدى الدكتور الصلابي خِـشيته من أن توسيع التدخّـل العسكري الدولي في ليبيا، سيُغذي هذه النزعات المتشدِّدة ويمنحها مبرِّرات لمحاولة الدخول على الخط مُجدّدا.
ورأى الدكتور الصلابي، الذي قاد حِـوارات طويلة مع قادة “الجماعة الليبية المقاتلة”، لإقناعها بالتخلي عن العُـنف وتَـوخِّـي أسلوب الصراع السِّـلمي المنسجِـم مع روح الإسلام الوسطي، أن الدول الغربية هي التي فاقمت الأزمة في ليبيا بإقفالها جميع المنافذ أمام معمر القذافي، عبْـر قرار مجلس الأمن، وقطع الطُّـرق المؤدِّية إلى مخرج سياسي للصِّـراع.
واستغرب مراقبون من التحوّل الذي طرأ على الموقف الأمريكي بعدَ تسلُّـل الولايات المتحدة على أطراف الأصابِـع إلى مؤخِّـرة المسرح الليبي، قبل أن تغيب تماما عن الاتصالات العَـلنية الجارية حاليا، وإن كان ثابِـتا أنها تُـتابع التطوّرات من وراء السِّـتار.
وعزا المطَّـلعون على الشأن الليبي هذا الموقف الأمريكي غير المألوف، إلى التقارير التي قد يكون الجواسيس الذين بثَّـتهم واشنطن في ليبيا نقَـلوها إلى الإدارة الأمريكية، وهي تقارير قد تكون حذّرت من تنامي التيارات الإسلامية الراديكالية في الصِّـراع الدائر ضدّ نظام القذافي، على نحو يُـمكن أن يؤدّي إلى سقوط ثَـمرة الحُـكم التي حان قطافها بأيْـدي قِـوى معادية للغرب عموما، وللولايات المتحدة بشكل خاص.
وفي هذا السياق، علمت swissinfo.ch أن واشنطن أبلغت المجلس الانتقالي قلقها من تسلّـم “القاعدة” أسلِـحة في شرق ليبيا. إلا أن أركان المجلس أكّـدوا لـ swissinfo.ch أن هذه الإشاعات “مجرّد صَـدىً لأكاذيب القذافي، الذي استخدم هذه الفزّاعة حتى اهترأت وصارت مثل الأسطوانة المشروخة”.
أكثر من ذلك، يمكن تفسير قلّـة الحماسة الأمريكية لمواصلة ضرب مواقع كتائب القذافي برغبة واشنطن بالإبقاء على طرف غيْـر منهار في طرابلس، لا بل قوي نِـسبيا في وجه الثوار كي لا تُفلت ليبيا غداً من دائرة النفوذ الغربي، وإن كان الحُـكم الذي سيُـقيمه الثوار سيُسوق هو أيضا النفط الليبي إلى الحرفاء التقليديين، ومنهم الولايات المتحدة.
شرط القذافي
وفيما تتكثّـف الاتصالات السياسية حاليا لطبخ تسوية، أفادت مصادِر حسنة الإطِّـلاع أن القذافي ربَـط الموافقة على وقْـف إطلاق النار والقبول بالحلّ السياسي، باستصدار قرار من مجلس الأمن يُجنِّـبه وأبناءه أيّـة مساءلة من محكمة الجنايات الدولية بعد تنحّـيه المُفترض عن الحُـكم. إلا أن موافقة المجلس الوطني الإنتقالي على هذا الشرط، أمر صعب، إذ من المستحيل القَـبول بتولِّـي قيادة سيف الإسلام المرحلة الإنتقالية بعد الموقف العَـدائي المتشدِّد الذي اتَّـخذه منذ انطلاق الثورة، نازِعا عن وجهه قِـناع الزعيم الإصلاحي، الذي طالما ارتَـداه في الماضي لتمرير مشروع خِـلافة والده.
أكثر من ذلك، قال زعماء المجلس الوطني الانتقالي، إنهم لا يمكن أن يقبلوا، بعد التَّـضحيات الجسيمة التي قدّمها الليبيون، العودة إلى نظام وِراثي، مؤكِّـدين أن سُـلالة القذافي “ينبغي أن ترحَـل عن بكرة أبيها”.
هل معنى ذلك أننا أمام مأزق سياسي سيجعل استِـمرار الحرب الخِـيار الأوحد المُـتاح للطرفيْـن؟ الأرجَـح، أن الثوار أدرَكوا خُـطورة هذه المراوحة وهم يسعوْن للإمساك مجدّدا بزمام المبادرة من خلال الهجمات الجديدة التي شنُّـوها في الساعات الأخيرة على مواقع كتائب القذافي، مُستخدِمين للمرة الأولى أسلِـحة متطوِّرة، من ضمنها صواريخ “غراد”. فهل سيحملون الطَّـرف المقابل على القبول بحلٍّ سياسي بشروطهم لا شروطه؟
رشيد خشانة – الدوحة- swissinfo.ch