في خطابه الأخير في الكونغرس، قبل اقلّ من أسبوع، ظهر دونالد ترامب بشخصية مختلفة. كان هادئا جدّا ومتصالحا مع الواقع في الوقت ذاته، اقلّه حاول ذلك. لم يكتف بمدّ يده الى الديموقراطيين، خصوصا أعضاء الكونغرس المنتمين الى الحزب الآخر، الذي خاض الانتخابات ضدّه بواسطة هيلاري كلينتون، بل سعى الى طمأنة الأعضاء الآخرين في حلف شمال الأطلسي (ناتو) الى انّه لا يزال داعما للحلف.
كلّ ما يريده من الأعضاء الآخرين في الحلف هو زيادة مساهماتهم المالية كي لا تتحمل الولايات المتحدة وحدها أعباء معظم تكاليف موازنة الحلف. أراد بكل بساطة بناء جسور مع أوروبا، خصوصا مع الدول التي لعبت دورا في هزيمة الاتحاد السوفياتي ايّام الحرب الباردة.
قبل أسابيع قليلة، كان ترامب يعتبر ان الزمن تجاوز “ناتو”. كاد ان يقول صراحة انّه لم تعد من حاجة اليه. فجأة، بدأ يعتمد خطّا جديدا ان لجهة العودة الى السياسة التقليدية للولايات المتحدة او لجهة التعاطي مع التركة الثقيلة لباراك أوباما بطريقة اكثر براغماتية.
على سبيل المثال وليس الحصر، كان ترامب ينادي خلال حملته الانتخابية بضرورة التخلّص من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني الذي وقّع صيف العام 2015. اكثر من ذلك، كان يعتبر الاتفاق الذي توصّلت اليه ايران مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا “أسوأ اتفاق من نوعه”. بقدرة قادرة، لم يرد ذكر للاتفاق في خطاب الكونغرس الذي بدا نصه مدروسا بعناية كبيرة.
ليس معروفا حجم التغيير الذي سيطرأ على الخطاب المضحك ـ المبكي الذي اعتمده ترامب خلال حملته الانتخابية. لكن الملاحظ انّه كان لا بدّ من الانتظار شهرا ونصف شهر على دخوله البيت الأبيض كي يصبح في الإمكان التفريق بين ما كان شعارات تصلح لاجتذاب جمهور ساذج وبين ما يدور على الأرض فعلا وكيفية التعاطي مع ما يمكن وصفه بالواقع، مهما كان هذا الواقع مرّا ومعقّدا وليس قابلا لتفسيرات تعتبر العالم مقسوما بين الخير والشرّ، بين الأبيض والأسود، وان لا مكان وسط بينهما.
ليس سرّا ان الشعارات والخطب التي تطلق في خلال الحملات الانتخابية شيء والواقع شيء آخر. الغريب انّ هناك ملايين الاميركيين صدّقوا ما كان يقوله شخص منفصل عن الحقيقة، قبل ان يأتي وقت مواجهة الحقيقة. كان لا مفرّ من ان يذهب وزير الخارجية ركس تيلرسون ووزير الامن الداخلي جون كيلي الى المكسيك للتعاطي بموضوعية مع مسألة شائكة تتعلّق بكيفية معالجة الهجرة من هذا البلد الى الولايات المتحدة بدل تهديد ترامب بإقامة جدار على طول الحدود المكسيكية ـ الاميركية واجبار المكسيك على دفع تكاليفه. حسنا، أقيم الجدار، ولكن كيف يمكن اجبار المكسيك على دفع التكاليف؟
لعلّ اهمّ ما يعكسه الخطاب الهادئ للرئيس الاميركي في الكونغرس تلك الرغبة في ظهور دونالد ترامب في غير مظهر الرجل المتوتّر دائما. بدأ رحلة العودة الى ما يفترض ان تكون عليه السياسة الاميركية بعيدا عن المزايدات الرخيصة والشعارات الفارغة التي سمحت لشخص ليس سوى رجل اعمال انتهازي بالوصول الى البيت الأبيض.
لا شكّ ان الرئيس الاميركي سيواجه مشاكل كبيرة في الأسابيع والشهر المقبلة في ضوء وجود اثباتات تؤكد انّه مساعديه كانوا على علاقة بالسلطات الروسية خلال الحملة الانتخابية. ان يضطر مستشار الرئيس لشؤون الامن القومي مايك فلين الى الاستقالة بعد أربعة وعشرين يوما من توليه مهمّاته ليس سوى رأس جبل الجليد. هناك فضيحة أخرى تطلّ برأسها بطلها وزير العدل جيف سيشونز الذي اجتمع مرتين بالسفير الروسي في واشنطن. لم يقل سيشونز الحقيقة كلّها لدى خضوعه لاستجواب في شأن الغرض من هذين الاجتماعين.
في كلّ الأحوال، اذا استطاع ترامب تجاوز المشاكل الناجمة عن ارتباط عدد من رجال ادارته بعلاقات مشبوهة مع السلطات الروسية، هناك توجّه الى ان تكون الإدارة الاميركية الجديدة قادرة على التعاطي بطريقة مختلفة مع ما يدور في هذا العالم، خصوصا في منطقتي الشرق الاوسط والخليج.
باختصار شديد، هناك مجموعة من الرجال القادرين على فهم ماذا يدور في الشرق الاوسط والخليج وشمال افريقيا واستيعاب ان الخطر الذي تشكّله الميليشيات المذهبية الايرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن ومناطق أخرى لا تقلّ خطورة عن خطر “داعش” وانّ الدور الذي تلعبه ايران يصب في زعزعة الاستقرار الاقليمي.
قبل ايّام، قال الجنرال المتقاعد بول فاليلي الذي يعتبر مستشارا للإدارة الجديدة في مؤتمر “نادي فالداي” الذي انعقد في موسكو ما معناه ان تدخلات ايران في البلدان العربية “انتج عشرات الآلاف من المتطرفين الشيعة” مضيفا ان ذلك “اوجب في المقابل ظهور المتطرفين والمتشددين من اهل السنّة من اجل مواجهة هذا التدخل غير المسؤول الذي يسعى الى إعادة رسم الخرائط من خلال التلاعب بتلك الدول وشعوبها (…) اننا نرى انّه من الصعب ان نغضّ الطرف اليوم عن العنف والجرائم التي يرتكبها نظام الأسد في حقّ شعبه. لدينا اليوم اكثر من مليون قتيل سوري”.
عكس كلام فاليلي في موسكو في مؤتمر لمركز للأبحاث تابع للكرملين رغبة في افهام الجانب الروسي ان عليه اتخاذ موقف حيادي من الازمة السورية مشيرا الى ان هدف الاجتماعات التي انعقدت في استانا عاصمة كازخستان كان حماية المصالح التركية والإيرانية في سوريا. كانت الخلاصة التي توصل اليها الجنرال المتقاعد، الذي يعكس كلامه الى حد كبير وجهة نظر النافذين في إدارة ترامب، ان “الأسد يجب ان يحال الى التقاعد حتى يصبح في الإمكان فتح الأبواب امام مصالحة وطنية في سوريا وذلك من اجل فرض الامن والاستقرار في هذا البلد الذي انهكته ايران عبر حروبها الطائفية وميليشياتها المنتشرة في سوريا ولبنان والعراق واليمن”.
هناك وضوح ليس بعده وضوح لدى الجناح الواعي في إدارة ترامب الذي انضمّ اليه أخيرا الجنرال ماكماستر الذي قبل ان يكون مستشارا لشؤون الامن القومي مكان فلين.
مثله مثل الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع، يعرف ماكماستر العراق وسوريا ودور ايران والنظام السوري في تشجيع الحركات الإرهابية. معروف عن مستشار الامن القومي الاميركي الجديد انّه لاحق بنفسه داخل الأراضي السورية مجموعات إرهابية أرسلها النظام في دمشق الى العراق لتنفيذ عمليات تستهدف الجيش الاميركي. تعرّض لتأنيب على ذلك وانهيت مهماته في العراق.
يعرف جنرالات ادارة ترامب ان المشكلة مع ايران ليست في الاتفاق في شأن ملفّها النووي. المشكلة في مشروعها التوسّعي الذي لم يتردد الجنرال فاليلي في التنديد به في موسكو بصراحة ليس بعدها صراحة.
هل نشهد انطلاقة جديدة لعهد ترامب الذي بدأ متعثرا قبل الخطاب الأخير للرئيس الاميركي في الكونغرس؟ المرجح ان هناك إدارة تمتلك بعض افضل العقول وأكثرها وعيا لما يدور فعلا في الشرق الاوسط والخليج وشمال افريقيا. ما يشجّع على التفاؤل انّ ترامب الذي تبدو علاقاته بروسيا وبفلاديمير بوتين تحت المجهر لن يمتلك هامشا كبيرا للمناورة بعد الذي حل بمايكل فلين. صار يعرف حدوده وصار عليه تعلّم السياسة واستيعاب انّ هناك فارقا بين الحملات الانتخابية والتعاطي مع مشاكل اميركا والعالم، بما في ذلك أوروبا والتطرف في الشرق الاوسط والخليج، من المكتب البيضاوي في الببت الأبيض. كانت فترة شهر ونصف شهر اكثر من كافية لنشهد بداية ولادة لدونالد ترامب الآخر… هل تكتمل هذه الولادة؟