في أواسط السبعينيات، من القرن الماضي، توصّلت الأجهزة الأمنية السورية إلى خلاصة مفادها أنّ وجود شيوعيين أو إسلاميين في قطاع التعليم يشكّل خطراً مباشراً على أمن النظام، ويتوجّب بالتالي اتخاذ خطوات عاجلة في اتجاهين: نقل هؤلاء خارج قاعات التدريس، إلى وظائف إدارية؛ وتعيين أكبر قدر ممكن من المدرّسين والمعلّمين البعثيين في الشواغر التي ستنجم عن تلك المناقلات. وكانت النتيجة بمثابة مأساة تربوية، لأنّ المنقولين كانوا من خيرة العاملين، خبرة واختصاصاً، والبدلاء نقائض الأصلاء، فشكّلوا كارثة يومية لمئات الآلاف من تلاميذ وطلاب سورية. وفي ما يخصّ المنقولين، كانت القرارات قد تكشفّت عن حال سوريالية فريدة، كأن يُنقل إلى مديرية التموين ـ قسم مراقبة الأسعار، مدرّس يمتلك خبرة 30 سنة في تدريس اللغة الإنكليزية؛ أو يُنقل إلى مديرية الزراعة ـ قسم المبيدات الحشرية، مدرّس قضى 32 سنة في تدريس الرياضيات!
وبعد سنوات قليلة أدركت الأجهزة ذاتها أنّ تلك السياسة لم تكن خرقاء فحسب، بل أعطت مفعولاً معاكساً تماماً، تبدّت أوضح آثاره في اختراق جماعة “الإخوان المسلمين” لعدد كبير من معاقل النظام الشبابية، في حزب البعث الحاكم ذاته، وفي “اتحاد شبيبة الثورة” و”الاتحاد الوطني لطلبة سورية”. وخُيّل للبعض أنّ خيارات كهذه انطوت مرّة وإلى الأبد، ليس لأنّ النظام اعتمد سياسات إصلاحية من أيّ نوع، بل أساساً لأنّ “فلسفة” الإستبداد صارت أكثر ذكاء، لكي تصير أشدّ شراسة في الواقع، وتطوّرت قليلاً في هذه الميادين تحديداً، فانحنت بعض الشيء أمام واقع الحياة الذي كذّب أساليب الماضي. وفي ظنّ أولئك الذين راهنوا على الإحتمالات الإصلاحية عند بشار الأسد، كانت العودة إلى تلك الأساليب أمراً شبه مستحيل، ويتنافى مع “الروح الشابة” التي أشاعها الوريث الفتى، وأشاعوها معه في وجه القائلين بأنّ الجوهر لن يتبدّل، والابن سيواصل مسيرة أبيه.
واليوم، لا يكتفي النظام الوريث بالعودة إلى تلك الصفحة السوداء المشؤومة، بل يضيف إليها بُعداً عقابياً بغيضاً تماماً، همجياً وفظاً ومبتذلاً، لأنّ غليل الجهاز الأمني لم يعد يشفيه نقل مدرّس من قاعة التدريس إلى وظيفة إدارية لا علاقة لها البتة باختصاصه، بل يتوجّب إخضاع المنقول إلى حال يومية من العذاب الجسدي والإستنزاف المادي، ليست أقلّ من أشغال شاقة مفتوحة مديدة. التبرير الوحيد الذي تنصّ عليه أوامر النقل هو البناء على “مقتضيات المصلحة العامة”،هذه التي ترى أجهزة النظام أنها لا تستقيم مع قيام الموظف الحكومي بأيّ نشاط ديمقراطي سلمي في الشأن الوطني السياسي العامّ، فكيف بانتمائه إلى هيئة معارضة، سواء أكانت تحالفاً أم حزباً سياسياً أم منظمة حقوقية.
وعلى سبيل المثال الاوّل، نُقل المعلّم محمد غانم (55 سنة، و34 سنة في الخدمة) من المدرسة التي يعلّم فيها في مدينة الرقة، إلى الدائرة الفرعية في بلدة معدان، التي تبعد 70 كم عن المدينة، حيث يسكن مع أفراد أسرته. وبالإضافة إلى زمن لا يقلّ عن ساعتين ونصف الساعة سوف يصرفه الرجل في الذهاب والإياب يومياً، ومتاعب السفر ومشكلات المواصلات، يتوجّب عليه أن يدفع 200 ليرة سورية ذهاباً وإياباً! المثال الثاني، من محافظة الرقة ذاتها، هو السيدة هالة محمود معروف (33 سنة في تدريس اللغة العربية) التي نُقلت من المدينة إلى المجمّع التربوي في قرية الجرنية، التي تبعد 40 كم، ويعتبر الناشط الحقوقي المحامي عبد الله الخليل أنها تعادل أكثر من 200 كم، بالنظر إلى وعورة الطريق وصعوبة المواصلات. وثمة عشرات الأمثلة الأخرى، في غالبية المحافظات السورية، من العاصمة وريف دمشق، إلى حمص وحماة وحلب؛ ومن الحسكة ودير الزور والرقة، إلى درعا والسويداء…
ولعلّ المرء لا يعدم مَنْ يدافع عن هذه القرارات، عن طريق الإيحاء بأنّ النقل إلى مكان ناءٍ يظلّ أخفّ وطأة بالقياس إلى الصرف النهائي من الخدمة، وهذا ما وقع بالفعل قبل ثلاث سنوات حين أصدر رئيس مجلس الوزراء محمد ناجي العطري القرار رقم 2746 تاريخ 14/6/2006، الذي قضى بصرف عدد من العاملين في الدولة. آنذاك كان السبب، غير المعلَن بالطبع، هو توقيع البعض على “إعلان دمشق” أو “إعلان دمشق ـ بيروت، بيروت ـ دمشق”، أو “بيان السويداء” الذي أصدره عدد من مثقفي جبل العرب وأدان الاعتقالات في صفوف المثقفين. ولائحة المصروفين من الخدمة كانت تضمّ عاملين في وزارة التربية، والتعليم العالي، والزراعة، والنفط والثروة المعدنية، والإعلام، والإدارة المحلية، والكهرباء، والمالية.
فلماذا يقتصر التنكيل، اليوم، على العاملين في قطاع التربية تحديداً؟ ولماذا الآن بالذات؟ وأي طارىء طرأ على قاعة الدرس، حتى تستشرس الأجهزة ضدّها على هذا النحو؟ وهذا النظام، الذي يتشدّق بالإستقرار، وإحراز الإنتصارات السياسية والدبلوماسية، و”إدارة الخلافات” العربية، وتصدّر “المقاومة” و”الممانعة” و”الصمود” وإحياء مبدأ “ما أخذ بالقوّة لا يُستردّ إلا بالقوّة”… لماذا يستشرس هكذا، مثل وحش كاسر أعمى منفلت من كلّ عقال، ضدّ مدرّسة أو معلّم؟ أليس مطلوباً منه، وفي صالح المظهر والشكل والدعاوة الديماغوجية على الأقلّ، أن يظهر على الملأ في صورة معاكسة تماماً؟ أليس محرجاً، لكي لا يقول المرء: مخجلاً، تلك الركاكة التي يقع ضحيتها حلفاء النظام والأقلام الساعية إلى تبييض صفحته، إزاء وقائع استبداد مثل هذه، كانت وتظلّ سنّة النظام في شعب سورية، على نقيض تامّ من كلّ مزاعم تجميل الوجه القبيح؟
الإجابات بسيطة، إذا ردّها المرء إلى جذورها الحقيقية، البسيطة بدورها، دونما إفراط في التعقيد السوسيولوجي عند تشخيص تركيبة النظام الراهنة بوصفها الإمتداد الطبيعي للنظام الأمّ الذي ورثته واقتاتت عليه، وبوصفها أيضاً تطوّره الطبيعي المنتظَر، في السياسة والأمن والاجتماع والاقتصاد. الإستبداد ليس طبيعة ثانية مقترنة بالنظام الراهن، وهو السنة الـ 39 من عمر “الحركة التصحيحية” أكثر من كونه السنة التاسعة من نظام بشار الأسد، بل هي طبيعة أولى أو طبيعة عليا أو طبيعية بنيوية تكوينية وجودية، لا تقوم للنظام قائمة من دونها. ولهذا فإنّ ممارسة الإستبداد، في أيّ قطاع وضدّ أية شريحة، لا تحتاج إلى مناسبة أو سياق أو مبرّر مباشر، لأنها جزء تأسيسي لا يتجزأ من ذلك النهج المتكامل الذي يعتمده النظام في العلاقة مع المجتمع، وينطوي على مختلف طرائق الترهيب والقمع والتنكيل.
لذلك فإنّ هذه القرارات التعسفية في قطاع التربية ليست سوى وقائع قطاع واحد محدّد، وقد سبقتها وقائع أخرى شملت الإعتقال، والإحالة إلى القضاء العسكري، والمحاكمة، والأحكام الجائرة، والمنع من السفر. وهنا غيض من فيض الأمثلة عليها:
ـ في 15 آذار (مارس) الماضي، أصدرت محكمة الجنايات بدمشق حكماً بالسجن ثلاث سنوات، بحقّ الناشط الديمقراطي حبيب صالح (61 سنة)، بعد إدانته بتهمة كتابة مقالات ونشرها في مواقع على الإنترنت، من شأنها “إضعاف الشعور القومي ونشر أخبار كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة”. وكان صالح قد اعتُقل في أحد شوارع مدينة طرطوس الساحلية، منتصف أيار (مايو) الماضي، وبقي طيلة فترة احتجازه معزولاً تماماً عن العالم الخارجي. وهذا، في عهد بشار الأسد وحده، هو الإعتقال الثالث، بعد الأوّل في فترة “ربيع دمشق”، خريف 2001، والثاني صيف 2005. قبلها كان صالح قد اعتُقل ثلاث مرات في عهد الأسد الأب، عرفياً ومن دون محاكمة: 1982، لمدة عام ونصف؛ و1986، لمدة ستة شهور؛ و1994، لمدة سنة ونصف.
ـ في 5 نيسان (أبريل) الجاري، وبعد سلسلة استدعاءات إلى فرع الأمن السياسي في حلب، اعتُقل الكاتب والصحافي فاروق حجي مصطفى، الناشط الديمقراطي في الأوساط الكردية بصفة خاصة، والمعروف بمواقف مشهودة في الدفاع عن السلم الأهلي ونبذ العنصرية. وكان حجي مصطفى قد عبّر عن آراء ناقدة جسورة حول أوضاع سورية السياسية والثقافية، عبر مقالات كان ينشرها في صحف عربية مثل “السفير” اللبنانية، و”البيان” الإماراتية، و”الحياة” اللندنية. وحتى تاريخه، لم يُعرض على أيّ قاضٍ، ولم تتضح بعد طبيعة التهمة، أو سلسلة التهم، الموجهة إليه.
ـ وفي 10 من هذا الشهر، حرّكت النيابة العسكرية في مدينة حمص دعوى قضائية بحقّ الناشط الحقوقي المحامي خليل معتوق، بتُهَم “تحقير رئيس الجمهورية”، و”تحقير إدارة عامة”، و”إثارة النعرات الطائفية والمذهبية”. وأمّا جريمة معتوق الحقيقية فهي إصراره على محاكمة عناصر الأمن الذين قتلوا ابن شقيقه سامي معتوق، الناشط بدوره في “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، في قريته المشيرفة، غربي مدينة حمص، في 14/10/2008. وكان المحامي معتوق قد وجّه برقية مسجلة إلى رئيس الجمهورية، ناشده فيها توجيه القضاء العسكري للتحقيق في جريمة مقتل سامي، بعد تقاعس النيابة العسكرية في حمص، رغم صدور قرار من النائب العامّ العسكري بفتح التحقيق.
ـ وفي 14 الجاري، أصدر قاضي الفرد العسكري الخامس في دمشق حكماً بالسجن لمدّة عام على فؤاد عليكو أمين حزب “يكيتي” الكردي في سورية، بتهمة (أو بالأحرى: “جنحة”) الإنتساب إلى “جمعية ذات طابع دولي” وفقا للمادة 288 من قانون العقوبات السوري. كما أصدر القاضي ذاته حكماً بالسجن لمدة سنة وشهر على حسن صالح، عضو اللجنة السياسية للحزب، بجنح “الإنتساب إلى جمعية ذات طابع دولي”، و”التحريض على الشغب”، و”إثارة النعرات الطائفية”.
ـ في اليوم ذاته، أصدرت محكمة امن الدولة العليا بدمشق أحكاماً على سبعة من المواطنين السوريين الأكراد، بينهم سيدتان، تراوحت بين السجن لمدة خمس سنوات وسبع سنوات، إستناداً إلى المادة 267 من قانون العقوبات، والتي تعاقب “كلّ سوري حاول، بأعمال أو خطب أو كتابات أو بغير ذلك، أن يقتطع جزءاً من الأرض السورية ليضمه إلى دولة أجنبية”.
ـ في اليوم إياه، أيضاً، مُنع المحامي نجيب ددم، عضو مجلس إدارة “جمعية حقوق الإنسان في سورية”، من مغادرة البلاد للمشاركة في أعمال الدورة العشرين للمؤتمر القومي العربي التي ينعقد في العاصمة السودانية. وقبله، للتذكير، كانت السلطات الأمنية قد منعت من السفر الشاعر عادل محمود، والروائي نبيل سليمان، والمخرج السينمائي محمد ملص…
هذه بعض حصيلة شهر واحد فقط، تسنّى خلاله لرأس النظام أن يدلي بأحاديث صحفية هنا وهناك، شرقاً وغرباً، شدّد فيها على منعة نظامه، كما في حواره مع “الخليج” الإماراتية: “لو لم يكن لدينا وضع سياسي جيد، هل كنّا تجاوزنا هذه الأزمة؟ إذاً، الوضع جيد”؛ وفي الآن ذاته: “استقرار سورية مستهدف، ودور سورية مستهدف، كلّ وضع سورية مستهدف”؛ ولهذا صار ما يسمّيه الأسد “الإصلاح الإقتصادي” في المرتبة الثانية، و”الإصلاح السياسي ثالثاً. أقول هذا وأعلنه ليكون كل شيء واضحاً”… وكأنّ الأمر كان خافياً على البعض، أو ملتبساً عند البعض الآخر!
أو كأنّ أضاليل النظام غرابيل “ممانعة”، في مقدورها أن تحجب شموس الحقائق!
s.hadidi@libertysurf.fr
• كاتب سوري- باريس
وقائع النظام السوري: ما لا يحجبه غربال “الممانعة” نقل الشيوعيين والإسلاميين و آخرين من قاعات التدريس و ” سركنتهم ” في غياهب مؤسسات العصابة نتج عنها إنخفاض شديد في جودة الطلاب والتعليم بصورة عامة وإرتفاع الطلب للدروس الخاصة لطلاب الشهادات من الإبتدائية إلى الثانوية مما شكل ضغطآ ماديآ لعائلات الطلاب السابحة في بحر الفقرالمدقع وفي أوائل الستينات عملت الأجهزة الأمنية ” لحماية العصابة ” إلى تسريح ضباط الجيش خاصة من أهل المدن و ذوي الخبرات العسكرية بعد دورات طويلة و مكلفة خارج البلاد من ملاك الجيش الذي كان بطريقه لآخذ إسم ” جيش أبو شحاطة العقائدي ” و تعيين أعضاء… قراءة المزيد ..
وقائع النظام السوري: ما لا يحجبه غربال “الممانعة”احيي الكاتب صبحي على فضحه النظام الفاشي في سوريا الذي لا يختلف عن اي نظام عربي اخر الذين كلهم مستهدفون حسب الدعاية الرسمية ، ومن من ؟ القائمة تطول وجاهزة للتفصيل حسب الحاجة لاكن النظام السوري زاد عن الاخرين ب ” المماتعة” وهو زواج المتعة بينه و بين النظام الايراني الذي تعلم منه اساليب جديدة في القمع و المماتعة على حساب الاهداف العربية متماهيا مع النظام الاسرائيلي لحماية وجوده. كما و احيي الكاتب السوري و السجين السابق على فضحة تعذيب النساء بسجون المخابرات السورية التي تستأسد على المواطن و سماء و ارض وطنها… قراءة المزيد ..
وقائع النظام السوري: ما لا يحجبه غربال “الممانعة”تفيذ الاعدام شنقا.. مشهد 1 نظرت من ثقب الباب وشاهدت منصات خشبية ومعدنية في الطرف الاخر من الباحة تتدلى منها حبال، في الطرف المقابل يجلس ابو عزيز وعدد من السجناء، ذهبت الى دورات المياه حيث يوجد شباك صغير يطل مباشرة الى الباحة وتكون الرؤية من خلاله اوضح، وضعت تحت قدمي كي اصل الى النافذة التي كانت مرتفعة بعض الشيء كالون من البلاستيك نستخدمه لتخزين المياه، صعدت واحسست بعدم التوازن في جسدي وقدمي تتراقص والخوف ان ينسكب الماء الذي لا نملك غيره.. 20 ليتراً من الماء اذا فقدناه يصبح 175 سجيناً دون ماء طوال… قراءة المزيد ..