وطن ما يرد حياً-ميتاً: أسماؤنا بين الصراع السياسي والديني

1

محرقة الأسماء

(1)

لسنا مجانبين للحقيقة، إذا ما قلنا أننا جيل ما بعد الثورة، 1962، كنا وما زلنا حقول تجارب لأحدث نظريات السلط المتقادمة والمتعاقبة، أيا كانت: ثورجية سياسية أو ثورجية دينية،أو حتى ثورجية فجلية “نسبة إلى الفجل”. وأظن في عالم الديكتاتوريات العربية الشمولية للعسكر لم تخرج تجاربنا الحياتية عن هذين الفكين المتوحشين.

فإن كان والدنا قومجياً، يخلف أطفالاً محارقاً للقومية، وان كان سلفياً إخوانياً خلف غزوات كبيرة وصغيرة ومن مختلف الأحجام تتمترس بالكهوف والغبار والمنجنيق، أجنة من مهالك خيبر، وخنادق للجهاد ضد كل شيء يتحرك.

وان كان ماركسياً واشتراكياً يتقلب نسله بين ثورة حمراء، وشريم ومنجل و مطارق تفلق الرؤوس، وتكرمل “نسبة للكرملين” الأجنة بالشغيلة الكادحة، ثم الفكر والهدف والنَفس الواحد…

(2)

سأضرب مثالاً لأسمائنا كيف لاكت “لعصت” هذه التجارب أرواحنا. سأحكي عن حارتي الصغيرة “سوق الصميل” /تعز، كيف انفتحت أسمائنا وأسماء مجايلينا من الذكور والإناث، وأسماء الشوارع والمدارس، والمحلات والمستشفيات والطرقات، المقاهي والمخابز وغيرها من أسماء المشاريع العملاقة الكبرى.

دخلتُ المعلامة ” الكتاتيب ” وأسماء أقراني: ثورة، جماهير، أروى، بلقيس، يمن، كفاح، جهاد، حرية، سيناء، سوريا، فلسطين، ناصر، عامر، جمال، وحدة، حتى ليبيا لم يتركوا لها حالها…

في المدرسة كانت منظومة الأسماء مفتوحة للمزيد من هصر المرحلة، واستدعاء أبطال التاريخ من بطون الحروب والصهيل والغبار، والسيوف، سهيل، ذو يزن، سيف، بركان، قاهر، كانت هذه أسماء المرحلة السبعينية من القرن العشرين.

من مشروع الأحلام الكبيرة: حرية، وحدة، قومية اشتراكية، وطرد المستعمر والمحتل، دقت نواقيس الثورات، وأهرقت الحرية الحمراء، والصفراء والزرقاء، وكل ألوانها تحتنا لنتعلم بمعلمين أشباه أميين، بلا طباشير وسبورة مهدمة، طلاب وطالبات يعانون الأنيميا الحادة من سوء التغذية، يطلق عليها بكل افتخار: مدرسة الثورة، مدرسة الحرية، النور، الوطن، الوحدة، بلقيس، أروى، عبد الناصر، مدرسة الشعب.

(3)

تعرضت بلادنا لحرب السبعين يوماً، وحوصرت صنعاء، ودارت معارك طاحنة بين الملكيين دعاة التخلف والإمامة، والثوار دعاة الحرية والتطور، نفس ماكينة “اللعص” خرجت أسماؤنا من قلب الدبابة، والدخان والرصاص: مدرسة صنعاء، مدرسة السبعين، ومستشفى وشارع السبعين، وبأسماء بعض الشهداء التي ترضى عنهم السلطة.

(4)

طُرد محتلوا الداخل (الأماميين الرجعيين) والحمدلله على السلامة أنجبنا ستة أهداف سمان مرتاحة، لكن كانوا من المخفيين (أعوذ بالله من الشيطان) بعدها زاد أنجبت ثلاثية الثورة (ظاهرة ما شاء الله) وهم القضاء على: الفقر والجهل والمرض، وواحدية الثورة: التي خلفت بسلامتها (وعمى بعين كل حاسد) الوحدة مع أحفادها: (يمن واحد، وعلم واحد، وأرجل واحدة، ورؤوس واحدة، ونخر واحدة، وأذان، ومعدة وكلاوي واحدة) (بسم الله ماشاء الله).

فمشطت الوحدة على أسماء المواليد الجدد وكل تفاصيل حياتنا وأنتجت بجانب الثلاثيات والواحديات: السعال الديكي، والسعال الدجاجي، حتى السعال الكتكوتي، كلهم توسدوا على عرق الوحدة، حتى “بسقوه” (قطعوه).

(5)

قبل الوحدة 1990 كانت الوطنيات العملاقة (عملقة كل شيء) مع الاعتذار للكاتبة الرائعة آمال قرامي، كانت الاشتراكية متجلية بمطلقاتها، فكانت “عدن” الحاضنة “للعص/ اللوك” الشيوعي، فظهرت الأسماء: مكسيم، ولينين، وروزا، وانجيلا، الكسندر، وأميل، ونتاشا، وجيفارا. ومن الطرافة، إن المواطن القبيلي/ الرعوي المُحزم بالماركسية اللينينية كان يسمى ابنه اسماً شيوعياً، فلا يستطيع الوالدان والأخوة والعائلة على نطقه، حتى الجن لم يتمكنوا من لفظه، فكنت ترى أسماء مثل: انجيلا مُكرد، أو مكسيم عبده قائد، أو تشيخوف دُهيس، نتاشا عبد القيوم، والكسندر باهارش، وجيفارا مُدهش.

حضرت الأسماء الراديكالية الوطنية، وتردكرلنا، وكان كل مواطن مردكل من عنقه، ضاع الوطن، الحلم، فكانت أرياف الجنوب الخارجة عن الحياة، لا تعرف شربة الماء، ويموت أطفالها بكل أنواع الأمراض فقر الدم، وفقر البطن، أما الذبح الأممي الذي تجلت شيوعيته وأمميته في 13يناير 1986 فكنست الأخضر واليابس.

(6)

من ثوراتنا واشتراكيتنا وأمجادنا القومية وماركسيتنا العملاقة، وطعناتها المتلاحقة، وأكثرها إدماءً طعنات الانتكاسات، الخيبات… كل ذلك كان تربة ذهبية لصعود المشروع الديني / الديناميت الديني، الذي كان يشتعل تحت الرماد ليكتسح و يجب ما قبله وما بعده من: ظلالة القومية وجهالة الاشتراكية، فبدأت كاسحات الأسماء في نفس حارتي اللهم تغيرت من المعلامة إلى مدارس لتحفيظ القرآن، ومستشفى الحرية إلى العلاج بالحجامة وقراءة القرآن، ثم سرولتنا بسراويل العفة والتقوى من الجلباب الأسود والقفصنة الدينية، بعد أن كنا سافرات، ونلعب نحن ومجايلنا من الذكور، وندرس في مدارس مختلطة (وكنا مسرولات في تلك الحقبة).

فبسرعة سعار السباق لتنفيذ تعاليم (الجب ما قبله) تحولت أسماؤنا إلى مصعب، وجندب، وبلال، وأية، ومحمد. هذان الاسمان الأخيران، أحياناً يكون في العائلة أو الأسرة، خمسة أسماء، كل أخ يكون أسرة يستفتح أسماء ابنائه بهما، ويختتمه بها، فتدخل على العائلة ويكون أسم “أية” رقم (19) أو “محمد” رقم (65)، ثم عائشة، وعلقمة، ومروة، نمارق، أبرار،،حفصة، جندبة، مصعبة، والشوارع، علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر..الخ.

والأشد طرافة، نجد بعض اليساريين أولئك الذين لم يكونوا يستطيعون إن يتلفظوا بأسماء أبنائهم “المردكلة ” يتسابقون إلى تسمية أبنائهم بالجندبة، والمصعبة، وأبي الحارث، وأم البوارق.. فترى في الأسرة الواحدة مكسيم عبده قائد، وجندب عبده قائد، بل ويحس بالعار والخجل ويتمنى لو ينمحي أسماء الحقبة الجاهلية الأولى (راديكالية الماركسية اللينيية) فتجده يزاحم الأرصفة والطرقات لصلاة الجمعة مع الجموع، وإذا كان أصدقاؤه الجدد (الجُبيون لما قبل وما بعد) عندهم زبيبة الإيمان والورع في جبهته، فهو يمتلك عشرين زبيبة تزاحم جبهته التي لم تختفي بعد ندوب العنف الثوري والكفاح المسلح.

ومن على منطاد المقاومات الجهادية أتي لعيص/لوك: أحد أحد، والعلاج بجناحي الذبابة إذا سقطت على الثريد، وعلاج الكي، العسل والحبة السوداء، ورجل العفريت، وظفر أم الصبيان، وطحال وبعصوص هاروت وماروت.

واجتثت الأسماء الوطنية لمدارسنا بمدارس: نسيبة، عائشة، أم سلمة، فاطمة، خديجة، مصعب، علي بن أبي طالب، عمر بن الخطاب ، عثمان بن عفان.. الخ.

وعلماؤنا والثوار الذين كانوا يتباهون بلبس البدلة والكرافت، والآن علماؤنا يعتمرون العمائم، واللحى، ليس ذلك فحسب، بل ويكتشفون علاج الإيدز وجملة الأمراض المستعصية. .

(7)

ما بين فكي الوطنية والدينية، وكلها تنبع من مصب واحد لا ثالث لهما ثقافة (الجبجبة / الجب) فكل طرف يجب بما قبله وبعده، لعب طرف ثالث أخذ الدنيا والآخرة في اليمن ألا وهو القبيلة، وهي لن تقف مكتوفة الأيدي، وأرتد الثورجي، والدينجي إلى مسقط رأسه، وأصله وفصله “قبيلته ” وأنتجت،بكيل، حاشد، مذحج، كهلان، صبران، أم صبيان، وهي الآن في قمة مجدها العصبوي، يغذيها ويقويها علماء التداوي برجل العفريت، ومن عطس فشمت به.

(8)

ماذا تبقى لنا نحن جيل ما بعد الثورة وجمهورية “من قرح يقرح” نبكي على ضياع صعبة الجمهورية؟ *أم نبكي على ظهور واستحداث صُعب وحمير وبغال والنوق الفالجة لحياتنا مخلقة القريح الوطني والديني والقبائلى؟ أنه الوطن الذي ما يرد حياً، ولا ميتاً، وطن “خزيمة “** يبترع عليه حاصدوا الأحلام “في ظل راية ثورتي”، و”يا بلادي نحن اقسمنا اليمين”، وسحقاً لأصحاب السعير.

خرجنا نحن جيل “الملاكد “/ الهاون مابين ضربة رمح من قومية، وضربة سيف إسلامية، ورفسة حصان قبلية. علمنا وتكنولوجيتنا “لا ندري” وخلفنا أطفالاً “لا أدريين” – طبعاً ليست بالمعنى الفلسفي لمذهب اللاادرية.

ضب وتضبب كل شيء من حولنا، فمن لم يمت بالسكتة الوطنية يموت بالسكتة الدينية، وإذا هرب تلاحقه الجلطة القبلية.كثروا العلماء، والجامعات والكليات، لكن ما زلنا نقرأ “ألف لا شيء له” والباء لا ندري حتى اللحظة إن كانت لها نقطة من تحت، أم أن ورماً في بطنه إسمه نقطة. لا ندري، لا ندري، وكلما اتسعت رقعة، لا ندري، فقد أفتينا.

ما نعرفه أن:م كسيم توفى لأن الطبيب ضرب له إبرة مخالفة، وأن بلقيس شلت بسبب علاج خاطئ، وناصر مجنون في أزقة الحارات، ومجاهد مدمن لأنه عاطل عن العمل، وجندب، ماتت أمه كمداً، فلم يحضر بعد جثمانه من الفلوجة، ومدرسة الحرية تنهار على التلاميذ، ومستشفى الثورة بلا حبة أسبرين، وطريق المجد، والوحدة، طريق الموت المجاني، فقد كان الشق خلال 24 ساعة لأن عيد الجلاء، والثورة على الأبواب.

صباح الخير.. يا أبي:

أبتئس عندما أرى أبي ومجايليه، أولئك الذين كانوا يسارعون بشراء ملابس لنا في أعياد الثورة من كل عام. كنا نزهو في حلات مزركشة، و”توّك” بشكل الورد والأوراق، ويغنون لنا:”يا بابا، يا ماما دعوني أروى بنت الجمهورية”.

سقطت شجرة الكافور التي كانت تظللهم بجانب دكاكينهم ليس لكبرها، بل لأن جفاف الماء في تعز سارع من موتها.

في الفجر، يسقطون عرعراتهم وسخطهم على كل حلم، وكلما اشتدت أمراض الشيخوخة يكفرون بكل شيء إلا من سجادة صلاة، وتكبيرة الآذان، لكنهم لا يحملون زبيب التقوى في جبهاتهم.

أروى بلا أروى:

أروى بنت الحلم العملاق، لبنت الهزيمة والانتكاسة الأكثر عملقة، هي الآن تجب مخرجات الشوارع من شدة استطالتها لجلبابها الأسود الثقيل الذي تتحمله، تتعثر بالدنيا.. تتسقط الآخرة في كل ثانية

وتنشد ” يا بابا يا ماما دعوني، خزيمة بنت الجمهورية”.

فكيف تشوفووووا

*:جمهورية من قرح يقرح، وضاعت الصعبة قصائد شعبية غنت أيام انتصارات الثورة.

**:مقبرة خُزيمة: أكبر مقبرة في الجمهورية اليمنية، وتقع في صنعاء يقبر فيها كل الذين قضوا أعمارهم في خدمة الشعب والثورة والجمهورية، حتى لو كان الميت لم يتجاوز عمره 20 سنة.

arwaothman@yahoo.com

*صنعاء

1 تعليق
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
ضيف
ضيف
16 سنوات

وطن ما يرد حياً-ميتاً: أسماؤنا بين الصراع السياسي والديني
محزين وضعنا الى اقصى الدرجة ماهو المخرج ؟ فقط ثورة عفية جماهيرية تجرف كل شيء من اجل بناءمجتمع بلا قبيلة واسلام متخلف.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading