أوصى مجلس الأمن القومي التركي، في إطار الانفتاح الخجول للدولة التركية على المُكوِّن الكوردي في البلاد، وبعد أسبوعين أو أكثر من إطلاقها جولة لقاءات تشاورية وتنسيقية مع مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الناشطة في البلاد، بغية حل القضية الكوردية المزمنة، إغلاق سجن ديار بكر، الذي تحول منذ انقلاب كنعان أيفرين في 12 سبتمبر 1980 وإلى تاريخه رمزاً لحقبة قاحلة من تاريخ تركيا الحديث، طفحت بأوجه القمع والتنكيل بالنشطاء في الشأن العام التركي، ومصادرة الحريات، وانتهاك حقوق الإنسان، وممارسة التعذيب الوحشي، إلى حد توصيفه من قبل العديد من اليساريين الأتراك الذين عانوا فيه خلال عقد الثمانينيات الأمرين بـ” أوشفيتز تركيا”.
لم تتأتَّ تسمية سجن ديار بكر بـ “أوشفيتز” تركيا من فراغ. فلقد شهد السجن بعد انقلاب 1980 أعمال تعذيب وحشية، وإضرابات مفتوحة عن الطعام، وعمليات انتحار، وإضرام المعتقلين النيران في أنفسهم. وقد فارق الحياة فيه نحو 34 معتقلاً بين عامي 1981 و1984، وأصيب العشرات بالإعاقة جراء تعرضهم للتعذيب الذي كان يجعل الموت أو الانتحار الخيار الأفضل والأمنية القصوى للمعتقلين. وصنَّفت صحيفة ” التايمز ” البريطانية في عام 2008 سجن ديار بكر من بين أسوأ عشرة سجون في العالم.
وقد أوردَ الصحفي التركي “أوغوز غوفن” في كتابه “صعبٌ الابتسام في الضيق”، العديد من وسائل التعذيب التي كانت متبعة في السجن. من هذه الوسائل على سبيل المثال لا الحصر: إطلاق الكلاب على المعتقلين المجردين من الثياب، الفلقة، سحب عضو الذكورة بواسطة الحبل، إدخال المعتقلين في المياه القذرة، إجبار المعتقلين على تناول الفئران والقذارة، إيلاج القضبان والعصي في مؤخرات المعتقلين، قلع الأظافر، التدلية من الأسقف، الاغتصاب… إلخ.
السياسي والبرلماني الكوردي “أحمد تورك”، رئيس حزب المجتمع الديمقراطي الممثل في البرلمان التركي TBMM، كان أحد الذين اعتقلوا في أعقاب انقلاب العسكر بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، وأدخلوا إلى قلعة الظلم (سجن آمد)، وعانوا صنوف التعذيب الوحشي على يد الجلادين والسجانين، يقول في حديث أدلى به لصحيفة “ستار” star التركية مؤخراً، كشهادة عن معاناته في سجن رقم / 5 / (سجن ديار بكر العسكري): “دخلت سجن ديار بكر بعد انقلاب 12 سبتمبر. يومياً كنت أتوسل إلى الله أن يأخذ روحي وينقذني بذلك من التعذيب. حتى الموت لم يك في متناول الأيدي، كنا نُجلبُ عراة بين العسكر ونتعرض للضرب، كانوا يجبروننا على تناول القذارة في مراحيض السجن، كانوا يمارسون التعذيب لمدة 24 ساعة متواصلة، كان كل جزء في أجسادنا ناصع السواد بتأثير الضرب، كانوا يسألوننا عما نعرفه باسم والدة أتاتورك، كانوا يداهمون المهاجع ليلاً، ويُقرؤوننا الأناشيد تحت الضرب. بفعل الخوف حفظت 54 نشيداً. وقد كان “تورك” شاهداً على مقتل العديد من المعتقلين في السجن الرهيب، خلال أعمال التعذيب أو عمداً.
ولعل المشاهدات تلك، كان لها الدور البارز في أن يسلك “تورك” وغيره من الذين قضوا فترة اعتقالهم في السجن المذكور نهجاً سلمياً وديمقراطياً، لإحداث قطيعة مع العقل المهيمن، الذي كان المرجعية الموجهة لاعتيادية العنف التي شهدتها تركيا بعامة وسجونها بخاصة، خلال حكم الانقلابيين العسكر في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، إدراكاً منه ومن غيره لحقيقة أن اللجوء إلى العقل الثأري من شأنه إعادة السيناريو العنفي غير المنتج مجدداً، ما يعني استمرار شقاء المجتمعات في الإطار المسمى “الجمهورية التركية”، الذي سيتحول آنها ببساطة إلى جغرافية للعنف الأبدي.
إذن، فإن صفحات كتاب سجن أمد / ديار بكر المفتوح منذ عقود ستغلق، ما دام مجلس الأمن القومي التركي كمركز قرار أول في البلاد أوصى بذلك. وقد تم إعلان خبر إغلاق السجن من قبل وزير الزراعة والشؤون القروية التركي “مهدي أكر”، أثناء زيارته مؤخراً إلى مدينة آمد / ديار بكر، حيث أشار إلى أن الحكومة اتخذت القرار بناء على توصية من مجلس الأمن القومي. وقد أشار الوزير “أكر” أيضاً إلى أن حكومة العدالة والتنمية تميل إلى تحويل السجن إلى مجمع تعليمي، مؤلف من ثلاثة مدارس ثانوية ومدرسة ابتدائية ودار حضانة ومنشأتين رياضيتين، وتقدر تكلفة هذا المشروع الإجمالية بـ / 24 / ترليون ليرة تركية، وسينقل السجناء إلى سجن آخر جديد أنشئ على أرض تابعة لوزارة العدل على الطريق بين ديار بكر وأرغاني، فيما سيغلق السجن الحالي الكائن في ضاحية “باغلار” التابعة لـ “آمد”.
وإذا كان تصريح الوزير التركي، حول عزم الحكومة التركية على إغلاق سجن ديار بكر، قوبلَ بالترحيب لدى العديد النشطاء السياسيين والمثقفين ومؤسسات المجتمع المدني في البلاد، إلا أن التحفظ الوحيد انصبَّ على خطة تحويل السجن إلى مجمع تعليمي. فالأوساط إياها تطرح ضرورة تحويل السجن إلى متحفٍ لحقوق الإنسان، يشرحُ للأجيال القادمة حقبة مدلهمة من تاريخ تركيا الحديث والمظالم التي وقعت فيها. ويكون بذلك عبرة لئلا تتكرر أوجه أو أعمال مشابهة كتلك التي كانت في تلكم الحقبة، وهو أمر ربما لعب دوره في تأجيل البت بمصير السجن. ولا شك في أن كل من عانى السجن والاعتقال التعسفي في سجون رهيبة ومخيفة كسجن دياربكر، سيكون من أنصار ودعاة تحويل كل سجن شهد الفظائع إلى متحف لحقوق الإنسان، لإحداث قطيعة مع المحددات الكامنة وراء إحداث السجون المرعبة كتلك، وتشميع آليات التفكير وأنماط التفكير التي شكلت المرجعية الموجهة لتحويل بقع من البلاد إلى مناطق استثنائية وانتهاكية من العيار الثقيل.
بغض النظر عن الهوية القادمة لسجن ديار بكر، وهل سيحول إلى مجمع تعليمي، أم إلى متحف لحقوق الإنسان، يبقى الأساس المُعوَّل عليه هو إغلاق كامل صفحة انقلاب 12 سبتمبر 1980 الذي قاده الجنرال كنعان أيفرين والذين معه، سيما وأن تداعيات ذلك الانقلاب لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، سواء عبر الدستور التركي النافذ أو مجلس الأمن القومي. فلا يعقل أن تغلق محطة من محطات ذلك الانقلاب متمثلة في سجن ديار بكر، في الحين الذي تستمر فيه محطات كثيرة أخرى في الراهن التركي.
تبييض السجون هو الأساس للدمقرطة والانطلاق كالصاروخ نحو المستقبل. والإبقاء على السجون السيئة والممارسات اللا إنسانية فيها لا يعني سوى الاستمرار رهن الاستثنائية السياسية والشذوذ السياسي.
mbismail2@hotmail.com
مدوّنة مصطفى إسماعيل:
وداعاً “أوشفيتز” تركيا
وداعا