أنْ يُغادرنا إنسانٌ جميل، في حجم الصديق العزيز “محمد الشيخ” فهذا مصابٌ جللٌ ومؤلمٌ جداً، لا يمكننا معه تصديق عدم وجوده بيننا إلى الأبد! فوجوده معنا في رحلة الحياة، لم يكن سدَّاً للفراغ أو تكملةً للعدد، بل كان في كلّ وجودٍ له معنا، وفي كلّ وجودٍ لنا معه، أشبه بِفريقٍ يعمل من أجل أنْ تبقى الحياة ممكنة في حياتنا. إنّه في وجوده معنا وبيننا، كنّا نختبر جودة الحياة من خلال اخلاصهِ الدائم من أجل أنْ يقول لنا في كلّ مرَّةٍ، أنتم أحباب الحياة، وأنتم الأصدقاء الذين أرى نفسي في عيونكم، وأنتم العمر الذي أريد أنْ أقضيه معكم إلى ما لا نهاية.
هكذا نفهم الصديق الراحل “محمد الشيخ” كَومضةٍ مستنيرة في الوجود الخلاّق. لقد تشاركنا نضالاً منذ سنواتٍ بعيدة، من أجل أنْ نفهم الحياة على نحوٍ جديدٍ ومتجدد ومتنوّع ورحب، ومن أجل أنْ نخرج معاً من سجون العقائد والمعتقدات والمفاهيم الخانقة، ومن أجل أنْ نعتني بعقولنا جيّداً، ونحميها من مهالك القطيع. وفي كلّ ذلك كان الراحل يعرفُ الثمن الذي علينا أنْ ندفعه في مقابل أنْ نملكَ في الأخير حريّة عقولنا، وفي هذا الصدد كان يذكّرنا بعبارة القديس أوغسطين: لا ترغب في الخروج، عد إلى نفسك، الحقيقة تسكن باطن الإنسان. ولذلك كان يجيد البحث عن الحقيقة في أعماقه، الحقيقة التي كان يراها في تحرَّر العقل من الأوهام والانغلاق والأدلجات البائسة، والحقيقة التي يستطيع الإنسان أنْ يجدها في أعماق ذاته الحرَّة والمفكّرة.
في كلّ حوارٍ له معنا، كان يباغتنا بِفكرةٍ بعيدة، يأتي بها من أقاصي الفهم، لأنّه كان يصرُّ على أنْ يبقى الحوار في ميدان الأفكار، وكان يقول دائماً، عليكَ أنْ تعرفَ كيف تنتصر للفكرة وليس لذاتك. فالفكرة عنده أساس الفهم والمعنى الذي يوصلنا إلى أنْ نكونَ معنيينَ دوماً بجمال التفكير في استخدام العقل. ولم يركن يوماً لليأس أو الجمود أو الخوف، حين يتعلّق الأمر بالأفكار، لأنّه كان يرى في جودة الأفكار التي علينا أنْ نبتكرها، حياةً تسير إلى النجاح والألق، لأنّها الأساس الذي تقوم عليها الإبداعات اللامعة، وفنون الحياة المتنوّعة.
في المراحل الأولى من تفتّحاتنا على مستبقل الحريّة في عقولنا، كان الراحل العزيز، لا يتوقّف عن طرح الأسئلة، وإثارة الأفكار في مخاض الشّك، كان يردد دائماً: عليكَ أولاً أنْ تتخلّص من التعصَّب، لكي تستطيع أنْ ترى الأمور بِشكلٍ أرحب وأوسع وأجمل، ففي التعصَّب هلاك العقل، وانعدام الرؤية. ولذلك لم نره يوماً يتعصَّب لفكرةٍ ما، حتى تلك التي كان يعتقد بها، ويراها خالية من الشوائب والهنّات، وفي هذا كان يذكّرنا بقول الفيلسوف برتراند راسل: إنّ مشكلة هذا العالم تكمن في أنّ الحمقى والمتعصبين، دائماً ما يشعرون بالثقة في أنفسهم، أمّا العقلاء فهم يشكّون دائماً في قدراتهم.
إنّه “محمد الشيخ”، الإنسان الذي كان دائماً ما يحاول أنْ يعرفَ نفسه، بِالقدرِ ذاته من معرفتهِ بعقلهِ ووجودهِ وحريّته، واستمرَّ في أنْ يعرفها كثيراً، ليس من أجل أنْ يتباهى بقدرتهِ على امتلاك ذاته، بل لكي يقول لنا، إنّ معرفة الذات خطوة في الاتّجاه الصحيح، وتلي هذه الخطوة خطوة العقل في الارتقاء بالتفكير إلى معارج النّضج، فالحياة في نظرهِ كانت تتلخّص في قدرة الإنسان على الافتكاك من لوثة التعقيدات الخانقة، والتأثيرات السلبيّة، وقدرته أيضاً على الانعتاق من سلطة الموروثات الهالكة للعقل والنّقد والفهم، ومن هنا كان الراحل يشيد بخطواتنا في الطريق إلى معرفة الذات وحريّتها.
أتذكّر أنّني حينما التقيتُ به في لندن، بعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، عانقني طويلاً، وكان سعيداً بسلامتي من الاحتلال والأَسْر، وكان قد مضى على فراقنا أكثر من سبعة أشهر، فكنتُ حينها أتلهّفُ شوقاً لرؤيته ومجالستهِ والحديث معه، وكان بدوره يشتاق للعودة سريعاً إلى الكويت، ومعانقة الأصدقاء والأحباب والأهل. وكان أول ما بادرني به من قولٍ في الصميم: اعلم يا صديقي العزيز محمود، إنّ هذا الاحتلال قد جرَّ معه إلى الهاوية الكثيرَ من المسلّمات التخديريّة والشعارات الفارغة والعبارات المزيّفة، وصرنا نعرفُ والحديث له، أنّ العرب دائماً ما يركضونَ تائِهين خلف المشاريع الخاسرة، ظنّاً منهم أنّ الحياة تقف عندهم دائماً، أو تتمحوّر حولهم أبداً، ولذلك يخسرون كلّ شيء، ولم يلتفتوا يوماً إلى بناء الإنسان، فكلّ ما يشغلهم هو التعصّب الأعمى للشعارات والأوهام والأدلجات والمعتقدات المدمّرة.
لم أعهدهُ يوماً كارهاً أو مُبغضاً أو حاقداً، دائماً قلبه الأبيض وطيبته الناصعة يسبقانه إلى الآخرين، ودائماً ما كان يأتي بابتسامةٍ مشرقة، ينثرها على الجميع، فكان يرى في الكراهية والبغض والحقد ضعفاً وانحداراً واختلالاً، لا يجدر بالإنسان أبداً أن يتسلّح بتلك الصفات دفاعاً عن نفسه، لأنّه كان يعتقد بأنّ الكراهية تجلب الكراهية، ولا شيء سوى الحب يعيد للإنسان إنسانيّته وأخلاقه وحضوره الجميل، وكان دائماً ما يراهن على الحبّ طريقاً إلى السلام والتعايش والمحبّة، وحتّى مع أولئك الذين كان يختلف معهم في الرأي، لم يكن إلاّ مثالاً في التسامح والموّدة والمحبة، وفي هذا كنت أتذكّره جيّداً حينما يحتدُّ النقاش مع المخالفين له في الرأي، فكان يقول لأحدهم: هوّن عليك يا صاحبي، ولا تتسرَّع في الحكم، عليكَ دائماً أنْ تتريّث في الرد قبل أنْ تجرح أحدهم بالكلام، وأنّ هناك دائماً مساحة كبيرة للآراء المختلفة والمتعددة، ففي النهاية على الحوار أنْ ينتصر وليس التعصَّب والتزمّت والانغلاق.
أتذكّر أنّني حينما كنتُ منشغلاً بكتابة سلسلة مقالاتٍ عن تجربتي مع الأيديولوجيّات الدينية، والتي قمتُ بنشرها في جريدة السياسة الكويتية، قبل أكثر من عشر سنواتٍ من الآن، كان الراحل “محمد الشيخ” بمثابة مرشدٍ فكريّ لي في كتابة تلك السلسلة. فكنتُ أسترشد برأيه هنا وهناك خوفاً من الوقوع في مستنقع التحيّزات أو الاتهامات أو المبالغات، فكان الراحل يلفتُ نظري إلى اعتماد العقلانيّة والواقعية في الطرح، والابتعاد عن الانفعالات العاطفية والنزق الشخصيّ، وعدم الانجرار إلى مهالك الانتقام أو التشفّي، وفي أكثر من مقال، كنتُ أستمع إلى رأيه العقلانيّ، وملاحظاته الدقيقة وانطباعاته الفكريّة.
كم وجدَّته مخلصاً لأصدقائه. لم يتخلّف أبداً عن معرفة أخبارهم، والتواصل معهم في كلّ وقت، ومساندتهم في حياتهم، فالصداقة في ثقافته، لم تكن ترفاً أو مضيعةً للوقت، بل كان يرى في الصداقات مشروعاً جميلاً يعزّز من امكانيّة صناعة الحياة، على أسسٍ من التعاضد الإنسانيّ الجميل في الوفاء والإخلاص والمحبة والتآلف، وعلى تنمية الشعور بدفق الحياة في عقولٍ تعمل من أجل تقديس الولاءات الإنسانيّة للإنسان أولاً وأخيراً فوق أيّ أفكارٍ أو توجّهاتٍ، من شأنها أنْ تسحق كرامة الإنسان أو إرادته أو اختياره، وحتّى إنّنا لم نعهدهُ يوماً يقاطع صديقاً له لمجرد أنّه اختلف معه بالأفكار، لأنّه كان يقول لنا: الصداقة قيمةٌ عليا وعليها أنْ تبقى كذلك، لأنّها تمثّلُ جوهر المحبّة الإنسانيّة، أمّا الأفكار فإنّ من طبيعتها أنْ تخضع للصواب والخطأ، وفي هذا كان يسترشد بمقولة الفيلسوف برتراند راسل: لن أموت أبداً في سبيل معتقداتي، لأنّني قد أكون مخطئاً. وكان يرى في فكرة الصداقة نضجاً معرفيّاً وأخلاقيّاً وإنسانيّاً يتسامى فوق البغض والشرور والخذلان والكراهية والأنانيّة والعدائيّة والتكبّر، وكان يقول بأنّنا عادةً ما نكتشفُ جمال الحياة وبريقها مع الأصدقاء الذين يرتقون بالعقل إلى مدارج الحريّة والنّضج والضوء والمحبّة والاستقلاليّة والإنسانيّة والفهم والانجاز والإبداع.
عرفتهُ وفيّاً لرفيقة دربه، فكان يرى فيها الزوجة والصديقة والحياة كلّها، حيث لم يكن يتخيّل أبداً أنْ يعيش العمرَ من دونها، فكانت بالنسبة له كلّ ما يملكُ من قوّةٍ وإرادةٍ وحبّ وشغفٍ للحياة، وكان أجمل ما يجمع بينهما ذلك التفاني اللامحدود لبعضهما البعض، وفي أواخر أيّامه كان يقول، أنّه يجد في قربها الدائم منه، وكأنّ الحياة بكلّ ألوانها وجمالها وروعتها وقوّتها تسري في أوصاله، وأنّ حبّاً جَمعه معها دوماً لن يموت أبداً.
وعرفتهُ منفتحاً على أفق الحياة، ومحبّاً لها، فلم يكن يتوانى عن معايشة أجمل الأشياء وأمْيَزها، فكان عاشقاً للترحال هنا وهناك، يستمتع بمعرفة الجديد والمثير عن ثقافات الآخرين في كلّ بلدٍ يزوره، وكان يرى في اليوم الذي يلي يومه، حلماً يتجلّى بارقاً في محبّتهِ للحياة، ولذلك كان شديد الإيمان بضرورة أنْ تبقى الحياة زاخرةً بالجمال والألق والضوء في أعماقنا، لأنّه كان يعتقد أنّ ذلك من شأنهِ أنْ يمنحنا التقدَّم الجماليّ في عقولنا وأذهاننا ونفسيّاتنا، لمواجهة القبح والكراهية والبشاعة والعتمة واليأس، وكان يرى أنّ في حبّ الحياة تكمن الإرادة الإنسانية وسعيها الخلاّق، لتعزيز ثقة الإنسان باختيارهِ وإرادتهِ وحلمه، وتطلّعاتهِ ومبادراته الإيجابية المثمرة.
من أجمل صفاته التي اشتهر بها الراحل بين أصدقائه وأحبابه، مرحه الجميل، حيث كان يأتي طافحاً بالحسّ الفكاهيّ الإبداعيّ، فلم تكن الفكاهة في ثقافتهِ تنمّراً أو استهزاءً أو تهكماً أو تسخيفاً، بل كانت الفكاهة في يوميّاته، متعةً يستدعيها دائماً من أجل أنْ يتخلّص من المشاعر السلبيّة واحباطات الواقع، فكان دائماً ما يشيع بيننا جوّاً من الدعابات المرحة الإبداعيّة، وبذلك كان يحرّرنا من الضغوطات والسلبيّات التي تعترض حياتنا. والفكاهة في سلوكه لم تكن انهزاميّة أبداً، لأنّه كان يرى فيها طريقته الطبيعيّة للصحة النفسيّة، وأيضاً كان يجد فيها ترسيخاً للذات الإيجابيّة، التي تستطيع من خلال الدعابة أنْ تواجه العثرات والضغوطات هنا وهناك، وكان يعتقد أنّه على الإنسان أنْ يتمتّع بقدرةٍ ذاتيّة على استدعاء حسّ المرح الإبداعيّ، لكي يمضي في حياته، يواجه بها أكثر اللحظات قسوةً وألماً، وكنّا نرى أنّ هذه واحدة من صفاته التي جعلته يملك جاذبيّة خاصَّة بيننا، فكنّا نستمتع بمرحه الجميل ودعاباته الإبداعيّة وحسُّه الفكاهيّ الممتع، وهيَ تضفي علينا جوّاً من اللطافة والبهجة والسعادة، وحتّى في طريقتهِ هذه كنّا نرى كيف كان يجعلنا نتبادل الأفكار والحوارات برحابةٍ سلسة ومتعةٍ كبيرة، فكان بذلك يجسّد مقولة ويل ديورانت: حس الفكاهة، الذي يولد من الإدراك، يحمل صلة وثيقة بالفلسفة، كلّ واحدٍ هو روح الآخر.
*كاتب كويتي
مقال رائع
ليس هناك أشد إيلاماً على النفس من وفاة صديق عزيز عليك ، خاصة إذا كنت قد عاشرت هذا الصديق فترة طويلة ، وبقي وفياً صادقاً لهذه الصداقة الحميمة إلى آخر لحظة من حياته،
كان مميزاًومسلياً.. رحمه الله
شكرآ على هذه المقالة المعبرة بو محمد ، التي بالرغم من ثرائها في ذكر مناقب فقيدنا الراحل الا انها لا تعطي الا القليل في حق بو عبدالله،،، حتى نعرف من هو عبدالله الشيخ يكفي انك لن تتذكر منه الا ابتساماته و مرحه و تفائله حتى في أحلك الظروف. لم أفقد فقط صديق العمر بل أخي و معلمي و استاذي و شمعة كانت تضيئ حياتي كل يوم.
سلمت يا أخي الكريم الوفي كل ما ذكرته عن حبيبنا الراحل لمسناه عن قرب فقد كان رجلا متسامحا لأبعد الحدود في حواراته ومناقشاته معنا يرتقي بأدب الحوار وأسلوب لاتشعر معه بأي ضيق حتى عند الاختلاف في الرأي فقد كان هذا الرجل الحبيب محبا لنا ولجميع الناس وقريبا من كل فرد من عائلتنا وكان يعيش مع ابنتي حياة المحبين وكان يتفانى من اجلها وتتفانى من أجله مما كان الجميع يغبطهما على هذه العلاقة الرائعة الجميلة حتى جاء الموت واختطفه من بيننا وفارقنا وتركنا في حزن عميق ولسان حالنا يردد : حسافة عليك يامحمد انطفأت شمعتك مبكرا وانا لفراقك لمحزونون عزاؤنا أنك… قراءة المزيد ..
مقال يصف حجم فقدي و خسارتي .. حبيبي و زوجي محمد الشيخ
الف رحمه عليك يا ولد خالي الحبيب