هذه الوثيقة تاريخية وفقط. هذا يعني أنّه، يوما ما وبعد عقود، سيسقط نص وثيقة “تيار المستقبل” السياسية الخاصة بآفاق الربيع العربي عرضا في يد احد المهتمين، وحينها سيقول هذا المهتم إنّه نصّ يصف الواقع اللبناني في ظل مسار الربيع العربي ويحمل في طياته العديد من المبادئ الديمقراطية والتمنيات بالحرية والاستقلال والسيادة، وأنّه، الى جانب نصوص مشابهة، لم يكن فاعلا في زمانه، وأنّه صدر عن جهة يفترض انها فاعلة في الحياة اللبنانية منذ سنوات.
لكن هذه الوثيقة، التي صدرت قبل أيام (الاربعاء 7 اذار 2012) عن اكبر تيار سياسي لبناني لجهة التمثيل البرلماني على الاقل، لم تلق ردود فعل افترضها بطبيعة الحال الذين انهمكوا باعدادها، محملين اياها عناوين تتصل بمستقبل البلد في ظل التحولات الجارية على مستوى المنطقة، وتحديدا في المشهد السوري.
لم يعترض على الوثيقة خصوم “تيار المستقبل”، كما لم يسارعوا الى تأييدها او تلقفها، اذا استثنينا بعض المواقف الهامشية او تلك التي تظهر ان اصحابها لم يطلعوا عليها، اوربما سمعوا بعض عناوينها السريعة في النشرات الاخبارية (وعلّقوا “على الماشي”).
قد يكون هذا الفعل مقصودا من قبل الخصوم، لكنه لا يقلل من كون الرئيس فؤاد السنيورة، الذي اطل من بيت الوسط على اللبنانيين مبشرا بهذه الوثيقة، كان في الفترة الأخيرة شديد الانهماك بقضايا بدت ابرز ما يشغل تيار المستقبل وحلفاءه منذ خروجهم من الحكومة حتى اليوم: حل مشكلة الـ11 مليار دولار، وانهماك مستمر بصهر الجنرال ميشال عون وزير الطاقة جبران باسيل، ومعه وزير العمل شربل نحاس، الى حين استقالته، وانهماك استنسابي بدار الفتوى ومفتيها.
الوثيقة في مكان وحركة نواب وقياديي تيار المستقبل تبدو في مكان آخر، وما يفترض انه جمهور هذا التيار في مكان ثالث. ففيما لم تنجح الوثيقة حتى اليوم في استدراج تخاطب الفرقاء اللبنانيين الى مساحة الحوار، لم تسعف الوثيقة – حتى الآن – نواب التيار ومحازبيه المفوهين لتحريك قاعدة التيار واثارة اهتمامهم في نقاش هذه الوثيقة او التبشير بها. هذا الجمهور الذي يتطلع الى سورية اليوم وما يجري فيها يتفاعل مع حركة الشيخ احمد الاسير اكثر من تفاعله مع “الوثيقة التاريخية” وما تحمله، كما يفاجأ هو نفسه بأداء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي فيثير اهتمامه واعتداده اكثر مما اثارته لديه معارضة تيار المستقبل الحكومة.
منذ خروجه من السلطة، ورغم العوامل المساعدة له التي اطلقها الربيع العربي لجهة ضعف الحلف الاستراتيجي الممانع الذي اسقط الحكومة السابقة، لم يستطع تيار المستقبل ان يقنع محازبيه، قبل عموم اللبنانيين طبعا، انه تيار يمكن ان يقود معارضة تفتح افقا جديدا طالما نادى به: بناء الدولة. كأنما السلطة ووجوده في داخلها هو الغاية التي تحفظ له الحضور، لذا بدا مربكا حين خروجه منها، لا بل ادى هذا الارباك الى ان يتضعضع سياسيا حينما صار عدوه الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي وبعض التيارات الهامشية المؤيدة لحزب الله لدى جمهور السنّة. تراجع داخل الطائفة ولم يتقدم في المساحة الوطنية، ولا تكفي بعض العبارات عن الدولة المدنية في الوثيقة الاخيرة لتعيد إليه ما خسره وطنيا بين عامي 2006 و2012 . فالدولة المدنية وطموحات الساعين اليها لا تقوم على قواعد سياسية تحكمها بعض المصالح السياسية والاقتصادية الضيقة ومجموعة عصبيات.
لقد قوّض المسار السياسي لتيار المستقبل، وحلفائه ضمن منظومة قوى 14 اذار، الكثير من الطموحات والاحلام التي حملها هذا التاريخ في العام 2005. ليس صحيحا ان اللبنانيين كشعب كانوا موحدين في 2005 لتتوحد الدولة في 2012، بحسب شعار الذكرى هذا العام. وهذا لا يعطي شهادة للطرف المقابل، الذي اقام مشروعه على قاعدة تستبعد قيام الدولة الواحدة والقوية عندما ربط ذلك بوجود شرعيتين للسلاح في البلاد بالحد الادنى. ففي العام 2005 تغلبت شهية المحاصصة وتقاسم المغانم على فكرة الدولة ودخلت لعبة المقايضات والاستقواء، لتختصر مشهد الصراع السياسي في البلد وفي قوى 14 اذار. وحدة الشعب في مشهد 14 آذار 2005 كان فرصة لم تتحقق، إذ لم يستطع خطاب الدولة الذي حلم به هذا الجمهور ان يمنع قيادة هذا الشارع من الدخول في “تحالف رباعي” من هنا وتسوية مع سوريا من هناك… ووصل الإفلاس الفكري إلى حدّ ان يضطر مستشار الرئيس سعد الحريري، الدكتور داوود الصايغ، الى القول امس ان الاحتفال بهذه الذكرى “واجب”….
والإفلاس بالشعارات، كما في السلطة، كذلك في المعارضة، ونفسه في المال والخدمات، وشبيهه في الفكر والاستراتيجيا… وحدها وثيقة “”تيار المستقبل وآفاق الربيع العربي” تبدو تاريخية، في لحظة واقعية تحتاج إلى الكثير من الحضور في الحاضر…
alyalamine@gmail.com
* كاتب لبناني
البلد