من بعد أن كان شاغل الدنيا ووسائل الإعلام بعيد سقوط نظام طالبان الأرعن في ديسمبر 2001، باعتباره رمزا من رموز تحالف الشمال المعادي للطالبانيين، ووجها أفغانيا معتدلا، وصاحب قدرات لغوية إنجليزية للتفاهم مع الميديا العالمية، غاب الدكتور عبدالله عبدالله وزير خارجية أفغانستان السابق فجأة عن المشهد، ليعود اليوم مجددا لكن كمترشح باسم الجبهة الوطنية المتحدة في الانتخابات الرئاسية الأفغانية المقرر إجراؤها يوم 20 أغسطس الجاري، وكأحد أقوى المنافسين لصديقه رئيس البلاد الحالي حامد كرزاي الذي يأمل في الفوز بفترة رئاسية ثانية بالرغم من الانقسامات الموجودة داخل حزبه (حزب جانبيش ميللي) الذي يعتبر واحدا من مائة حزب مرخص يمثل الاثنيات والثقافات والمصالح المختلفة، لكن دون أن تكون لها أيديولوجيات متميزة.
وكان أحد أسباب غياب عبدالله عن المشهد حتى وقت قريب هو شعور كرازاي بالطموحات القوية لوزير خارجيته (الذي كان هو شخصيا وراء الإتيان به، بل وراء ترشيحه في مؤتمر بون للقوى الأفغانية في ديسمبر 2001 لتولي قيادة أفغانستان في الفترة الانتقالية)، فأقصاه من منصبه في عام 2006 حينما كان في زيارة رسمية لواشنطون بدعوة من نظيرته الأمريكية “كونداليزا رايس”، الأمر الذي أغضب واشنطون. وقتها بدا أن حياة عبدالله السياسية قد انتهت، لكن الأمريكيين قرروا أن يعيدوا الرجل إلى الواجهة في عام 2008 عبر إشراكه في ورش العمل والمناظرات الأكاديمية الأمريكية الخاصة بأفغانستان، ربما استعدادا لدفعه لمنافسة كرزاي في انتخابات 2009.
وهذه الانتخابات التي تعتبر ثاني انتخابات ديمقراطية حرة تجرى في أفغانستان ما بعد طالبان، من بعد انتخابات عام 2004 التي فاز بها كرازاي، سوف يشارك فيها نحو 15.6 مليون مقترع سجلوا أسماءهم، بينهم نسبة لا تقل عن 35 بالمئة من الإناث. علاوة على ذلك فان هذه الانتخابات شاب موعد إجرائها الكثير من الجدل واللغط وتبادل الاتهامات بسبب اقتراح اللجنة المستقلة للانتخابات إجراؤها بالتزامن مع الانتخابات التشريعية لعام 2010 توفيرا للنفقات العامة، وقيام البعض من معارضي كرازاي باتهام الأخير بأنه هو الذي يقف خلف ذلك الاقتراح من اجل تمديد فترة ولايته لعام آخر. وحينما طالب كرازاي لجنة الانتخابات بعقدها طبقا لمواد الدستور أي خلال 60 يوما من انتهاء ولايته في يوليو 2009، كان تعليق المعارضين هو أن الرئيس يحاول بهذا عقد الانتخابات في أغسطس 2009 وبالتالي توظيف عامل الزمن في النيل من منافسيه الذين لم يكونوا جاهزين بعد لإطلاق حملاتهم.
ويقول مراقبون كثر أن هذه الانتخابات الرئاسية سوف تكون شرسة، ليس فقط بسبب كثرة المترشحين فيها (44 مترشحا بينهم امرأتان) وتباين خلفياتهم وبرامجهم، وإنما أيضا بسبب إصرار الجميع على الذهاب إلى آخر المطاف، أي دون احتمالات التراجع أو الانسحاب، أو الخوف من انتقام الطالبانيين الذين هددوا بإفساد وتخريب العرس الانتخابي ووصفوه بالبرنامج الصليبي الخبيث الهادف إلى محو إيمان الأفغان وتغريبهم!
ويقال أن هناك عامل آخر يتمثل في أن واشنطون باتت تفضل الإتيان بشخصية أخرى غير حامد كرزاي الذي بات يشكل إحراجا لها بعدما تلوث نظامه بقصص الفساد (كان آخرها مصادرة القوات البريطانية العاملة في أفغانستان على أطنان من الأفيون في مجمع سكني مملوك للأخ غير الشقيق للرئيس) والمركزية الشديدة وعدم التواجد فعليا على كامل التراب الأفغاني، ناهيك عن لا واقعيته في تناول الأمور، وإصرار كرزاي على اختيار نائبين له أحدهم موال لإيران والآخر موال للروس. و لهذه الأسباب مجتمعة، تبدو واشنطون مستعدة للتضحية بكرزاي و المراهنة على إحدى شخصيتين: الأولى والأكثر قربا لها هي الدكتور عبدالله عبدالله الشخصية الكاريزمية النظيفة المولودة في كابول في الخامس من سبتمبر 1960 من أم طاجيكية وأب بشتوني هو “غلام محي الدين خان” الموظف الذي حظي دائما في مسقط رأسه في قندهار بالتقدير والاحترام لعمله الطويل في السلك الحكومي كموظف مجتهد في دائرة المسح الطبوغرافي. إلى ذلك فان عبدالله عبدالله هو سليل عائلة خدم العديد من أفرادها في البلاط الملكي، وكان طالبا نجيبا تمكن من اجتياز كل مراحل دراسته بتفوق إلى أن حصل على شهادة الماجستير في طب العيون من جامعة كابول في عام 1983، فضلا عن أنه تربى في بين علم وأدب وشعر، فدرس الصوفية والحضارة الفارسية وحفظ أشعار حافظ وسعدي و ابن الرومي. أما الشخصية الثانية فهي أشرف غني وزير المالية والمسئول السابق في البنك الدولي وأحد رموز الأرستقراطية الأفغانية الغابرة والمنحدر من قبيلة “احمد زاي” التي تعتبر أهم وأقوى القبائل البشتونية (جده لعب دورا بارزا في الإتيان بالملك نادر شاه والد الملك الراحل محمد ظاهر شاه إلى السلطة في أوائل القرن العشرين، وشقيقه يتزعم اليوم مجلس قبيلة “احمد زاي” التي تضم نحو ربع سكان أفغانستان).
إلى جانب عبدالله عبدالله وأشرف غني وحامد كرزاي الذي سيدخل الانتخابات محتفظا بنائبه الثاني كريم خليلي المنحدر من إقليم “الهزارة” الشيعي، لكن مع تغيير نائبه الأول “أحمد ضياء مسعود” لصالح أحد لوردات الحرب الطاجيك المتهمين بجرائم خرق حقوق الإنسان أثناء الحرب الأهلية الأفغانية وهو محمد قاسم فهيم، نجد في قائمة المترشحين للرئاسة والذين وافقت اللجنة المستقلة للانتخابات على أسمائهم شخصيات من أمثال: رمضان بشار دوست الذي طرح اسم البروفسور في كلية الزراعة “محمد موسى برك زاي” كنائب أول له، واسم السيدة “عفيفة معروف” الناشطة الحقوقية المستقلة كنائب ثان له، وعبدالجبار سبت المدعي العام السابق، و سروار احمدي زاي المرشح المستقل والمفكر البارز الحاصل على شهادتي ماجستير من الولايات المتحدة في القانون والعلاقات الدولية والذي عرفه الأمريكيون من خلال تطوعه للعمل ضمن حملة الرئيس باراك اوباما الانتخابية كممثل للأفغان الأمريكيين، وشاه نواز تاني وزير الدفاع السابق، والزعيم الأوزبكي “أكبر باي”، وهدايت أرسلان الخبير الاقتصادي والوزير الحالي في حكومة كرزاي.، ومحمد هاشم توفيقي الخبير الأفغاني الذي خدم في ولايات وحكومات أفغانية مختلفة و أقام في الغرب طويلا لكن دون أن يتخلى عن هويته الأفغانية، وذبيح الله غازي نورستاني زعيم حزب العدالة والتنمية الذي ناضل طويلا في الثمانينات من اجل إيصال صوت الأفغان إلى رموز الكونغرس و الإدارة في الولايات المتحدة وإقناعها بالوقوف معهم ضد الغزاة السوفييت، ومير واعظ ياسيني (47 عاما) المتحدث الأول باسم مجلس الشعب الأفغاني وابن الأكاديمي الإسلامي المرموق عبدالستار ياسيني، وشهلا عطا النائبة في مجلس الشعب وأرملة أحد شهداء الحرب الاهلية والمتحمسة للعمل من أجل استرداد حقوق المرأة الأفغانية وفق السياسات والبرامج المتحررة التي وضعها أول رؤساء أفغانستان “الجنرال محمد داوود خان” ما بين عامي 1973 و1978.
لكن ماذا تقول استطلاعات الرأي التي أجريت في هذا الخصوص خلال الأشهر القريبة السابقة؟
في استطلاع للرأي أجري في أوائل مايو 2009 من قبل إحدى الجمعيات الممولة من الحكومة الأمريكية، تبين أن الرئيس الحالي في مقدمة المرشحين للفوز وبنسبة تصل إلى 31 بالمئة، يليه الدكتور عبدالله عبدالله بنسبة 7 بالمئة.
غير أن هذه الأرقام سرعان ما تغيرت في منتصف يوليو المنصرم حينما حصل كرازاي على 36 بالمئة، وحصل عبدالله عبدالله على نسبة 20 بالمئة، و رمضان بشار دوست على نسبة 7 بالمئة وأشرف غني على 3 بالمئة ممن أدلوا بآرائهم، علما بأن نسبة من لم يقرروا أو رفضوا الإجابة كانت في حدود 20 بالمئة.
وبطبيعة الحال فان البيانات والأرقام السابقة تفيد بأن التنافس سوف ينحصر تحديدا ما بين حامد كرزاي وعبدالله عبدالله، مع حصد رمضان بشار دوست وأشرف غني على نسبة قليلة من الأصوات. ويعتقد الكثيرون في هذا السياق أن الانتخابات لن تحسم من الجولة الأولى، بمعنى أن كرزاي لن يتمكن من الحصول على نسبة الخمسين بالمئة من أصوات المقترعين اللازمة للفوز من الجولة الأولى، وبالتالي سيخوض جولة ثانية من المنافسة مع الشخصية التي تليه من حيث عدد الأصوات، والتي تجمع التقارير أنها ستكون الدكتور عبدالله عبدالله لأسباب كثيرة منها أنه يحظى بدعم مالي وإعلامي من الأمريكيين، ومنها أن بامكانه أن يحصد أصوات المقترعين في المقاطعات الشمالية كنتيجة لعلاقاته السابقة بأسد “بانجشير” أي بالقائد الراحل أحمد شاه مسعود، ومنها أنه يخوض الانتخابات تحت شعار جذاب هو الأمل والتغيير معطوفا على برنامج يقول فيه أن بامكانه أن يوظف خبراته الجهادية والدبلوماسية وعلاقاته الدولية في تغيير الكثير من الأشياء الجامدة من حوله. وهذا ربما كان صادقا فيه، لأن كل من عمل معه أو عرفه عن كثب أشاد بمناقبه ومهاراته كقائد ودبلوماسي محنك. وفي محاولة منه لجذب المزيد من الأصوات على حساب المترشح القوي الآخر أشرف غني، أعلن الرجل مؤخرا أنه إذا ما فاز في الانتخابات فسوف يعين الأخير كرئيس للحكومة، وهو الشيء نفسه الذي أعلنه كرزاي و للأسباب ذاتها، غير أن أشرف غني استخف بالأمر علنا ورفضه!
أما الامرأتان الافغانيتان المترشحتان فليس لهن حظوظ بالفوز، وان كان مجرد موافقة اللجنة المستقلة للانتخابات على دخولهما السباق يعد تغييرا ذو معنى ودلالة في بلد كان حتى الأمس القريب يجلد ويرجم ويعذب نساءه لأتفه الأسباب ويحجزهن في المنازل ويمنعهن من العمل والدراسة والتنقل.
باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh