الرفض الروسي لأي قرار من مجلس الأمن الدولي يعاقب كوريا الشمالية وإيران بسبب تطوير الصواريخ البالستية يدلل على تمسك روسيا بعقيدة نشر الصواريخ الإستراتيجية عندها وعند حلفائها.
من البلطيق إلى بحر الصين الجنوبي، ومن شرق البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر، يكشف المشهد الإستراتيجي الراهن عن صلاحية دائمة لمبدأ قديم في التنافس على النفوذ وعناصر القوة لأن “من يسيطر على البحار يمتلك زمام القوة”.
تنخرط في اختبارات القوة بشكل أساسي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، بالإضافة إلى القوى الأوروبية والقوى الصاعدة مما يمكن أن يمهد للمزيد من النزاعات في غياب إمكانيات الردع والتوازن الإستراتيجي، أو التحكيم تحت سقف نظام دولي مضطرب.
لم ينته التاريخ كما توهم فرنسيس فوكوياما عند نهاية الحرب الباردة، بل كما تصور كارل ماركس “يعيد التاريخ نفسه مرتين: في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة”. واليوم في زمن الفوضى الإستراتيجية لسنا أمام حرب باردة جديدة وفق معايير القرن العشرين، بل نشهد ما يمكن أن يكون أدهى بشكل مقنع وغير مبشر، إذ أن صواريخ كوريا الشمالية، حاليا، يمكن أن تجعلنا نخشى يوما من أزمة مشابهة لأزمة صواريخ كوبا في العام 1962.
ومن جهة أخرى أتى نشر الولايات المتحدة لمنظومة الدفاع الصاروخي في رومانيا، الأسبوع الماضي، بمثابة حدث مميز في سياق التوتر الأميركي – الروسي الملحوظ على عدة جبهات، وربما يكون له وقع تركيز صواريخ بيرشنغ الأميركية في أوروبا (ردا على نشـر الصـواريخ السوفييتية أس أس 20) حيث أن ما سمي بمعركة الصواريخ الإستراتيجية في أوروبا في أواسط الثمانينات أسهم في تسريع التحول السوفييتي مـع بيرسترويكا ميخائيل غورباتشوف. في هذه الأثناء، تحتدم النزاعات في غرب آسيا (الشرق الأوسط والخليج العربي) ويتصاعد التهديد في شبه الجزيرة الكورية، ويبرز في الآونة الأخيرة شكل جديد من أشكال سباق التسلح بين الدول الأكثر قوة في العالم. وكل ذلك يعني أن الرهان على الانتقال نحو نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، تعتريه مخاطر جمة وصعود الإرهاب والانكماش نحو الهويات القاتلة، بالإضافة إلى انعكاسات الأزمات الاقتصادية والنقدية والتغيير المناخي.
بالرغم من خطورة ما يجري على صعيد بحر الصين الجنوبي (الخلافات حول الجزر، المشاكل بين الصين والفلبين وفيتنام، الوجود الأميركي) وحول كوريا الشمالية، يظهر أن اختبار القوة الأساسي يرتسم من جديد حول اللاعب الروسي وطموحاته وهواجسه، ومما لا شك فيه أن ما يزيد الأمور تعقيدا تشبث الولايات المتحدة الأميركية بموقعها كقوة عظمى وحيدة، وإصرار القيصر الجديد على العودة إلى “روسيا الكبرى” في تغليب لعنصر القوة العسكري في غياب العناصر الأخرى.
أثناء لقائه قادة خمسة بلدان من الشمال الأوروبي في البيت الأبيض، في 13 مايو، ندد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بالموقف العسكري الروسي “العدائي” في شمال أوروبا، كما أكد على دعم أوكرانيا بمواجهة أنشطة موسكو التي اتهمها بالعمل على “زعزعة الاستقرار” و“مضايقة الدول الصغيرة في أوروبا”. في المقابل، انتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنشاء مظلة حماية صاروخية لحلف شمال الأطلسي في الجوار الروسي، واصفا إياه بأنه تهديد لأمن العالم وقال حرفيا “يبدو أن هذه هي الخطوات الأولى للولايات المتحدة لزعزعة توازن القوى الإستراتيجي في العالم”، بيد أن بوتين حدد أسلوب الرد عبر تطوير صواريخ مضادة، مضيفا أنه يتعين على روسيا أن تقوم من جانبها بما من شأنه تأمين توازن القوى، لأن ذلك حسب بوتين يمثل “الضمانة الأفضل لعدم نشوب صراع عسكري كبير”.
لا يقتصر التخوف أو التلويح بصراع عسكري كبير على رجل روسيا القوي، ولا على سياسيين أو خبراء، بل صدر في الفترة الأخيرة كتاب لافت عنوانه “2017 الحرب مع روسيا” لمؤلفه الجنرال المتقاعد ريتشارد شيراف ـ القائد الأعلى السابق لحلف شمال الأطلسي في أوروبا بين 2011 و2014. يحذر الجنرال البريطاني من مخاطر نشوب حرب نووية مع روسيا في حال عدم تعزيز قوة الردع عند حلف شمال الأطلسي في الجوار الروسي وخاصة في بلدان البلطيق. بالطبع، يمكن أن يقال إن هذا المنطق ينتسب إلى الماضي وإلى حقبة الحرب الباردة، لكن مؤلف الكتاب يركز على وجوب الحكم على فلاديمير بوتين تبعا لأفعاله وليس على أقواله، وما تصرفاته من جورجيا إلى أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وسوريا، إلا الدليل على نهجه الهجومي التكتيكي الذي نجح، حتى الآن، في نقلاته النوعية على رقعة شطرنج الصراعات.
تعتبر موسكو نفسها في موضع دفاعي لأن بوتين اعتبر نهاية الاتحاد السوفييتي من أصعب لحظات القرن العشرين، ولذا يجهد لإعادة الاعتبار إلى المدى الجيو سياسي لروسيا (من أصل 17.1 مليون كيلومتر مربع خسرت روسيا 5.3 مليون كيلومتر مربع بالإضافة إلى فقدان السيطرة على أوروبا الشرقية) ويتمسك بمقاربة النهج الأميركي وفق نظرية هالفورد ماكيندر أي “نظرية قلب الأرض” والتي تقول إن من يسيطر على قلب الأرض (أوراسيا) يسيطر على العالم القديم (آسيا – أوروبا – أفريقيا) بأسره.
ومن جهتها تركز الدوائر الأميركية على أن هدف الهيمنة التقليدي ليس بالحسبان إزاء حروب الجيل الرابع واختلاف خارطة عوامل وعناصر القوة، لكنها تلاحظ أن ممارسات موسكو تشي بتمسكها بأساليب السيطرة التقليدية كما يتبين مع “وجود روسيا العسكري المتنامي العدائي والوضع في بحر البلطيق وشمال أوروبا”.
ومع الاختراق الروسي في سوريا وشرق البحر الأبيض المتوسط (الذي قبلته واشنطن ضمن منظورها لاستنزاف قدرات روسيا ولأنه لا يتناقض جوهريا مع سياساتها أو يمس بمصلحتها العليا)، لكن الرفض الروسي (مع التلويح باستخدام حق الفيتو) لأي قرار من مجلس الأمن الدولي يعاقب كوريا الشمالية وإيران بسبب تطوير الصواريخ البالستية يدلل علـى تمسك روسيا بعقيـدة نشـر الصواريخ الإستراتيجية عندها وعند حلفائها، بينما تطور واشنطـن منظومـات الدفاع الصـاروخي في كوريا الجنوبية وشرق أوروبا وتركيا والخليج، وكأن الهدف ضمان ديمومة الغلبة الأميركية والمظلة الأميركية للحلفاء.
يمكن ألا تتوقف الأمور عند مخاطر ملامسة مقاتلات روسية لقطع بحرية أو طائرات أميركية، أو لتجارب بهلوانية لزعيم كوريا الشمالية وجنرالات الحرس الثوري الإيراني، إذ أن بوتين يعمل على نشر منظومات صواريخه، مقابل المنظومات الأميركية، وتعمل المصانع الروسية لتطوير صاروخ إستراتيجي نووي تدميري تطلق عليه اسم الشيطان.
يبدو، بوضوح، أن الكرملين مسكون بهاجس خسارة حرب النجوم أمام رونالد ريغان، لكنه لا يستخلص الدروس ويصر على الاستمرار في مغامرة التوتير وسباق التسلح الجديد. كذلك لا تبدو المؤسسات الأميركية مقتنعة بأي تحول يسمح لروسيا والصين بالتفوق العسكري. والغائب الأكبر عن هذا الميدان هو الاتحاد الأوروبي الذي لا يملك قراره العسكري واستقلاله الإستراتيجي.
في النهاية، يمكن لسباق التسلح الجديد أن يؤدي إلى تغيير طبيعة الحروب المستقبلية، ويجعل أسلحة الردع والدفاع الصاروخي الحالية بلا قيمة. وينطوي هذا السباق، الذي اتخذ منحى محموما مؤخرا، على صواريخ جديدة تفوق سرعتها سرعة الصوت بأضعاف، كما أنها تتسم بدقة أعلى من سابقتها من الصواريخ التقليدية. نحن أمام انقلابات في المفاهيم الإستراتيجية لكننا أمام عالم من دون عظماء ومن دون احترام للمعايير الأخلاقية في حدها الأدنى مما يجعلنا نخشى من الأسوأ.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب