غزة رهينة المحبسين… العتمة و الحصار. غزة تتعمد بدماء أبنائها، المسفوحة بالآلة الاسرائلية، وبصراع الأخوة أحفاد القوم الجبارين. غزة.. لا وقت لديها للملمة جراحها، فقد صارت اذا أصابتها سهام تكسرت النصال على النصال.
أطفأت التلفاز. خرجت من البيت ووجهتي احدى قاعات حزب العمل النرويجي لمتابعة المؤتمر السنوي للجالية الفلسطينية في النرويج. ورغم انشغالي بالتفكير بما يمكن عمله هنا من اعتصام أو ندوات …الخ.. إلا أن كلمة (الحوار) المهووسة بها منذ زمن طويل، تلح عليّ و تتربع في مقدمة رأسي معلنة أولويتها، وأحقيتها في شغل تفكيري.
بداية كان علينا الحوار مع الغرب. و لا يهم ان كان الحوار ثقافيا أو دينيا أو سياسيا! ثم بدأ النداء بالحوار ألاثني.يفرض نفسه…عربي – كردي، فارسي- أشوري. حوار ديني اسلامي- مسيحي. لينتهي الحوار بعد ذلك في دهاليز البيت الواحد و الدين الواحد و الطائفة الواحدة حتى دخل المتاهة.
التقيت بصديقتي التي قطعت مسافة ساعتين في السيارة لتشارك في المؤتمر بعد إلحاح مني. قلت لها، لا تتفاجئي، فالأغلب أن نكون الأمرأتين الوحيدتين في المؤتمر. لعلمي أن الديوك فقط هي التي تخرج من أقنانها، تاركة دجاجها ملفحة بالحجاب مع كتاكيتها داخل البيوت. وهذا ديدن الذي أعتدنا عليه.
كذبت ظنوني، والله، فبمجرد أن اقتربنا من المبنى الكبير شاهدنا حشد لا بأس به من النساء، و حشد من الفلسطينيين لم أشهده من قبل. سعدت بذلك، سيما رؤيتي لعناصر من مختلف الجاليات الفلسطينية.. الجالية المرخص لها و المعترف بها من الدولة النرويجية التي يرأسها نضال حمد. جالية آل وعرية. جالية الممثلية الفلسطينية المتألفة من موظف فيها و شخص آخر.
يعني هي أشبه بالدكاكين، و بامكاني مع بعض القراء ان نفتح دكانا (جالية) لو شئنا ذلك. أسعدني لقاء كل الأصدقاء اللدودين. و تساءلت في سري..ياه! كم من أنهارللدماء الفلسطينية نحتاج لكي نتوحد في لقاء قصير و عابر؟! انه انعدام الحوار….يجمعنا الدم، و يفرقنا الحوار، انه ثمن من الدم كفيل بتحرير العالم و ليس فقط امارة غزة و مقاطعة الضفة الغربية المقطّعة الأوصال.
غصت القاعة بالجموع الواجمة، ملت الى صديقتي و همست لها: انّها حشود انقلاب على الجالية المرخص لها بالعمل من الدوله، و ليس ايمانا بالعمل الجماعي ولا إيمانا بحق المرأة بالمشاركة، فنحن شعب مهووس الأرقام و الأكثرية، متناسين قول الشاعرالعربي..
تعيّرنا بأنا قليل عديدنا فقلت لها ان الكرام قليل.
ضحكت الصديقة وقالت: كأنك يا حنان مخرجة هذا المؤتمر.
مكثنا بعض الوقت. قلت للصديقة المتعبة من رحلة طويلة: أتوقع حدوث بعض المشاكل، وإلّا فلن نكون أنفسنا .
تحدثت مع بعضهم قليلا، ثم صمت أستفرس الوجوه و القسمات. اذ أن اجتماع كل هؤلاء الأصدقاء/ الأعداء لأمر مثير للريبة و الدهشة. كانت أحاديثهم تطرق أذني دون استئذان. لم أسمع أي حوار حول الأوضاع، أو تأثر لما يحدث في غزة بشكل خاص. و لم يتطرق الى سمعي حوار حول دورنا هنا و ما يمكن فعله.
بدأ الاجتماع بحضور رئيس ممثلية فلسطين في النرويج ياسر النجار وهو ابن الشهيد يوسف النجار، حيث كان من المفترض أن يلقي كلمة. كان على رئيس الجالية أن يرحب بالحضور ويقدم ممثل فلسطين لإلقاء كلمته التي لم يسعدنا الحظ بالوصول إليها. ا لصورة واضحة من الملامح و التحفزات. الموالون والمعارضون.
أطلقت باتجاه رئيس الجالية أول كلمة نارية، أعقبها رشق من الكلمات الحادة، رد عليها للتو أحد الموالين، فنحن شعب دماؤه حارة، لا يرضى الاهانة أو المذلة!
حمي وطيس المعركة الكلامية والتراشق باللعنات من كل الأعيرة، لكن حمدنا الله أن القوم لا يملكون الكلاشنكوفات حتى لا ترتفع أعداد القتلى و تضاف الى لائحة الضحايا في غزة. ولأننا شعب مبدع أيما ابداع، فقد تحولت الطاولات و الكراسي و باقات الزهر المجفف التي تزين الطاولات، الى بنادق الى جانب الكلمات البذيئة و الجارحة مع التهجم على أعراض الأمهات و الأخوات و البنات، لا عجب في ذلك فما زال شرف الأمة و العشيرة محصورا في نسائها!!!!! وسرعان ما اختلط الحابل بالنابل. ودارت المعارك بالسلاح الأبيض، الأيدي.. الكلمات التي يأنف من تردادها أولاد الشوارع وسقط المتاع ممّن لا يتلفظ بها شريف أمام النساء. ! فآنقلبت الطاولات، و تنتفت باقات الزهر و تبعثرت الكراسي ليتبعثر معها المؤتمر. الميكروفون كان هو الآخر ضحية تتخاطفه أيدي الثائرين ليعلن كل واحد رأيه. رئيس الجالية يعلن تأجيل المؤتمر إلى حين حل الإشكالات.. يصيح آخرون بالاستمرار و طرد رئيس الجالية… “لا.. ليخرج غير المنتسبين للجالية المعترف بها من الدولة!!”
صعد شاب صغير إلى المنبر و صاح بهم بلهجته المحلية، “أنا فلسطيني ابن فلسطيني واللي بكول (بقول) منكم انه بيمثلني بدي أكتلو ( أقتله)”. صاح آخر ولا أعلم من أي فريق،” اللي ما بيخرج منكم و الله لأرميه من الشباك” علما أن القاعة كانت في الطابق الخامس. قلت في نفسي “لا شيء غريب ” فقد فعلها انقلابيو حركة حماس من قبل بعناصر فتح في انقلاب غزة.. غزة التي نبكيها اليوم.
رئيس الجالية يعلن تأجيل المؤتمر و يطلب إخلاء القاعة التي استأجرها على مسؤوليته. نادت الأكثرية المحتشدة بطرده، ثم أعيد ترتيب طاولة جلس إليها ثلاثة رجال معلنين الانقلاب على الهيئة الادارية السابقة. داعين الحشد إلى الترشيح للقيادة الجديدة. أعلن بعضهم إغلاق الباب و حاولوا منع خروج أحد من الموجودين. أحد الحضور حمل سكينا صغيرا مهددا به. للحظات انتابني شعور بأننا أصبحنا رهائن مجموعة فقدت أعصابها و صوابها. وفي وسط المعمعة غادر السيد ياسر النجار دون أن يشعر به أحد، بعد أن فشل في تهدئة الخواطر الهائجة.
دخول البوليس النرويجي المفاجىء لم يوقف الصراخ و التشابك بالأيدي. دعا البوليس إلى إخلاء القاعة بسبب الضجيج الممنوع و لتجنب الاشتباكات. صعق الجميع و حاولوا العصيان، قاطعوا البوليس غير آبهين بكلامه . انفض الجمع أخيرا بمثل ما بدأ به من قدح و ذم . و هكذا انفخت الدف و تفرق العشاق . توجهت الأكثرية إلى قاعة أخرى لمتابعة أعمال المؤتمر الميمون. كنت آخر من غادر المبنى، و اذا بسيارة بوليس أخرى و سيارة إسعاف ترابطان أمام المبنى.
فيلم فلسطيني قصيرعلى الطريقة الأمريكية. و صورة مصغرة لما يحدث في داخل البلاد، و في مخيمات الشتات، ووسط الجاليات المقيمة في أوروبا، و لا ندري متى تدخل قاموسنا ثقافة التحاور، و حل المشاكل بغير أساليب البلطجة.
“”””””””””””””””””””””
albakir8@hotmail.com
* كاتبة فلسطينية من لبنان- أوسلو
واخجلتاه… وأسفاه
أعجبني الأسلوب !!
كتابة ساخرة موجعة
اللهم احفظ فلسطين فلسطيننا وأهلها