أصبت قبل عشر سنوات– بعيد عنكم – بحمى قاتلة، ارتفعت معها درجة حرارتي الى 755 درجة “معوية” لم تصاحبها فقط بزغللة العينيين، بل وزغللة مخية حادة، وتنافض العروق والأعصاب،حتى ان كل عضو في جسدي كان يتفجر لوحده..
كانت الرجة غليظة أكسبت جدار مخي تكلساً وصل حد التصلب البازلتي. لم ينفع معه لا الطب العربي ولا البديل ولا الكيماوي.. كانت حمى خصوصية، لي ولمن هم في مثل حالتي.
إنها (حمى الهوّية) وخصوصاً (الهوية الوطنية).
لا أنكر أني كُنت في بداية اشتغالي بالفلكلور قبل عقدين من الزمن مقيدة بقوالب جامدة، كنت لا أفهمها، في حمأة المنافحة عن التراث وحمايته، والحفاظ عليه والدفاع عنه.. الخ من هذه التعابير ك: الذوبان، والاندثار والانقراض، والتشوه، والمسخ.. الخ . كُنت أيضاً، مهجوسة بالهوية، حبيسة الثنائية : نحن / وهم، وبغير ذلك من الأحكام المسبقة المؤدلجة بـ: إما /أو، وكأن التراث الشعبي من أغاني النساء، والمهاجل، والرقص والحكايات.. الخ ستتلاشى بالذوبان الذي يأتي مغلفاً أحياناً وسافراً في أغلب الأحيان بصوت وصورة أمريكا والدول الإمبريالية التي تتربص بنا، وتفتك بثقافتنا.
وكأن أمريكا وحلفاؤها يستهدفون باستماتة مسخ هويتنا، وخصوصياتنا الثقافية، وعاداتنا وتقاليدنا ومعتقداتنا، ومحو الأغاني والحكايات والهدهدات، وسحق المحراث والثيران والإتيان بتركتوراتهم وجرافاتهم لإبادة سكون القرية، وسيأتون لنا بحليب صناعي بديلاًً عن حليب الأبقار، ومباني خرسانية بدلاً عن اللِبن والياجور، وسيمزقون ثيابنا الجميلة المنقشة والمكشكشة، سيدخلون علينا ثياب إفرنجية ضيقة وعارية.
كان ينتابني الأرق من اقتحام الجينز لأجساد نساء قريتي، واحتلال الكوكا كولاً بدلاً عن”قهوة القشر”، ورقص مايكل جاكسون بدلاً من “الشَرح”، وأتخيل كيف ستكون جدتي التي تستقبل الشمس من ركن سقف منزلها بمهجل الصباح بالإيقاع الهادي الحنون المزدان بالألفة، بمهجل أمريكي، صاخب أو من أغاني الريف الأمريكي، ولعلنا تمادينا بشكل لا إنساني أمام هواجسنا المثقلة بالإيديولوجيات من أن حتى شق الطريق، وإدخال الكهرباء بدلاً عن الفانوس سيهدد كل أشكال التراث، وبدوره سيلتهم خصوصيات حياتنا..
كنتُ مثل(لسان حال) أحزاب حكومية ويسارية ودينية، هم لسان حال الشعب، وأنا على غرارهم لسان حال هوية شعوب الكرة الأرضية والأجرام السماوية، والشعب المرجانية.
ولطالما انبريت كطلقات “الجرمل” **لأتحدى أي لسان آخر يتحدث عن الهوية خارج تلك الحمى إلا وتصيبه طلقاتي، التي تفوق مدافع الديكتاتوريات، والأدهى من ذلك، لم أكن أعلم بأني لا أختلف عنها البتة.
كُنت مثل الحكومات التي تستهل منهج عملها بالبسملة الوطنية المركزة: (لسان حال) الشعب. وحين يطالبهم الشعب بالخبز، يردون عليه بالديمقراطية وشوروية الحكم. يحدثونهم عن الأمن والاستقرار، يحدثونك عن (حرب الزماميط – البالونات) في أدغال المسيسبي. يصرخ المواطنون من الفساد وغلاء المعيشة، يرجمه (اللسان حال) “برجمات الغيب القومي والأممي” عن مبادرات الجن في جزر الكناري، للتحرر من الإنس في شمال كلهاري.. وهكذا هو حال ثقافة لسان حال السُلط.. وبدوري هكذا كُنت أهذي بحمى الهوية، ويشتد سعار هذياني عندما تنتابني بشكل مخصوص حمى (الهوية الوطنية)، فمن عطس قلت له : انك مصاب بمرض زعزعة الهوية الوطنية، ومن عانى من الكتمة، قلت له : تنفس هوية “مُزيتة” بزيت الجلجل/السمسم الوطني ليسهل بلعها وبذا تتنفس صحة، ومن تنفس قليلاً قلت له: نم على هوية “ثربوية” (نسبة الى ثربة /شحمة الكباش) ستحلم بأنك سددت الإيجار والفواتير، ودفعت أقساط المدارس، وسافرت في رحلة صيفية الى جبال الألب وبحر قزوين..
هويتي كانت أثقل عياراً من وصفات الحبة السوداء / حبة البركة، شفاء ودواء لكل العلل الجسدية والروحية والوطنية.
وكنت أحمل “الهوية الأم” داخل “مَسب / كيس جلدي” كبير وعميق ومتين، يكسر ظهري كلما أضفت إليه توابل الوطنيات بأنواعها. كان مَسب “حبوب مجذوب” محشورة داخله ألاف من الهويات على أقسام وأحجام وأشكال، نصرفها بحسب المقاسات التقليدية والحداثية أيضاً، نصرفها كلما أحسسنا أن المرء يعاني من رجرجة فكرية في نقص وتقشف في الهوية، واندحار متهتك للوطنية.
هكذا تخيلتُ المسألة، وعندما بدأ انشغلت بهاجس الكتابة قبل أكثر من عقد، توشأ قلمي بالماقبليات، المايجب، واللابد، وأحياناً لا بد من ضرية وضربتين على طاولات النقاش لأبرهن على حماسي “المُجرمل” ( نسبة الى بندقية الجرمل) للدفاع عن هويتنا المسحوقة، فالمسألة حياة أموت، يا قاتل أو مقتول. فأمريكا والعالم الغربي لا شغل لهم غيرنا، وغير قريتي المقصية عن الخارطة اليمنية، بل والمقصية عن الحياة برمتها _ فمازال الفانوس، والمياه الآسنة، وطرق الموت، والكي علاجاً يعلم حياتهم حتى اليوم -.
كنت أنهل من القراءات لأولئك الكتاب الذين يمنحوني طاقات للمزيد من تحطيم الطاولات، والزعيق الثوري المعبأ بالضديات، والحيثيات، والإستراتيجيات، وبلا قيود، وبلا حدود، ولا أخفيكم أني كنت في هذه الحمأة أقرأ الكلمة الأخيرة ب” حيود “. فضلاً عن نهمي في قراءة الكتب المرصعة بالتعاليم والوصايا والفتاوى لرموز القومية الثورية، من ماوتسي تونج وثورته الثقافية، الى ” ما العمل “، الى كيف تصبح قومياً ثورياُ في أقل من ثلاث دقائق، خصوصاً إذا شربتهم على الريق.
وتوهمت بذلك أني كنت أقاوم الإمبريالية والعولمة والديكتاتوريات، من غير أن أدرك أني لا أختلف عن أي ديكتاتور. حتى كٌتبت لي زيارة الى مكتبة الإسكندرية في إحدى منح اليونسكو (2005) وتحرر عقلي من كثير المُسبقات، تراجعت عن التشنج المصحوب لضرب الطاولات (وان كنت ما أزال أمارسها بين حين وأخر) وعن الحماسة الزاعقة، وعبر الكتاب والقراءة حاولت أضيق المسافة بين : “إما” و “أو”، ونحن وهم.
عرفت أن صراع الهويات والهوية الدائرية المغلقة تحت أي مسمى: اسلامياً أو دينياً، قومياً، يمينياً، ماركسياً، أو غير ذلك، ماهي إلا مصنعاً لكل القتلة والمجرمين، والمستبدين، وان الهوية لا تزهر إلا في الشرفات المفتوحة على الشرفات الأخرى المختلفة، للتعدد والتنوع وليس للتجانس الساكن. وان الثقافات هي المحور الذي يجب أن يشتغل عليها البشر، للتعايش، وان المواطنة هي السبيل للتعايش، وأنا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بفصل الدين عن الدولة، وفصل الدين عن الدولة مليون مليون مرة، لنختلف ونختلف، ونختلف، لنعيش، وننتج، ونبدع، ونأتلف.
ولاكيف تشوفووووووا؟
*حُيود : شاهق صخري، ويعد إحدى هاويات الموت.
**الجرمل : من البنادق القديمة القوية، تستخدم دلالة على الجاه والقوة والفحولة القبلية.
arwaothman@yahoo.com
كاتبةيمنية – صنعاء
سبحان مغير الأحوال !؟ سبحان مغير الأحوال ، من يقرأ للكاتبة الاشتراكية أروى عثمان ، يعتقد أنها قد أصبحت مجندة في الجبهة الأمامية للرأسمالية المتوحشة في بعدها الثقافي ، وسواء كانت واعية بذلك أم لا فهي تحارب في الجبهة الخطأ .. فبالأمس ، عندما كان الاشتراكيون والعلمانيون والقوميون العرب ، هم حملة مشروع النهضة والأستقلال في المنطقة ، في مواجهة السيطرة الاستعمارية الرأسمالية ، إستخدمت هذه الأخيرة القوى الأصولية والإسلامية في مواجهة المد اليساري والقومي لآجهاض مشروع الاستقلال والتحرر من الهيمنة والتبعية ، ولما دار الزمان دورته ، وبعد سقوط المشروعين اليساري والقومي ، هاهي الرأسمالية في طورها المتوحش الجديد… قراءة المزيد ..
هوية: “بلا حُيُود”
يقول احد العلماء: العدل أساس الحياة الاجتماعية، ومن بذل العدل أفلح في إدارة شئون المجتمع، مؤمنا كان أو كافرا، لذلك قال الإمام ابن تيمية في كتاب الحسبة: «إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام». وقال: «أينما يكون العدل فثم شرع الله ودينه». وقال الإمام ابن القيم «كلما تحقق به العدل هو من الشرع وإن لم يرد به نص».